جاسم عجاقة

أظهرت الفترة الأخيرة أن الأدوات التي يمتلكها مصرف لبنان لكبح جماح الدولار الأميركي في السوق الموازي لم تعد لها مفاعيل طويلة الآمد بحكم أنها تعتمد على ضخ الدولارات في السوق في مُقابل شفط الليرة اللبنانية من التداول. هذا النموذج لا يُمكن له أن يستمر بحكم عمليات التهريب التي تقوم بها العصابات والتي تُخرج الدولار من السوق اللبناني سواء كان مصدره السوق الموازي أو مصرف لبنان.

حاليًا، هناك طريقتين أساسيتين تستخدمها العصابات لتهريب الدولارات إلى الخارج: الأولى من خلال تهريب السلع والبضائع عبر الحدود وقبض ثمنها في حسابات تابعة لها في الخارج، والثانية من خلال تحويل الأموال (الكاش) عبر المصارف اللبنانية بحجة الإستيراد من دون أن يكون هناك من يؤكدّ إستخدام هذه الأموال في الإستيراد. من هذا المُنطلق لا يُمكن في ظل هذا الفلتان السيطرة على حركة الدولارات في السوق اللبنانية حتى ولو تم ضخّ مئات ملايين الدولارات يوميًا إلا من خلال ضبط الحدود ومراقبة متشدّدة لعمليات الإستيراد وتحويل الأموال.

الكلّ يُجمّع على أن الحل المُستدام لاستقرار سعر الصرف هو من باب الإصلاحات وتوقيع برنامج مع صندوق النقد الدولي. وهذا الأمر غير مُتاح اليوم مع الإنقسام السياسي ومع رفض صندوق النقد الدولي التفاوض مع حكومة تصريف أعمال. إذًا في ظل هذا الواقع، ما هي الإجراءات التي يُمكن القيام بها للجم ارتفاع الدولار في السوق الموازي؟

من أكثر الإجراءات سهولة في التنفيذ هو القرار الذي اتخذّه وزير المال والذي طالبنا فيه مرارًا وتكرارًا أي إلزام التجار والشركات دفع الضرائب نقدًا (كاش). وزير المال أخذ قراراً قضى بدفع نصف الرسوم الجمركية على السلع المستوردة نقداً بالليرة اللبنانية وهو ما أثار حفيظة السوبرماركات التي هدّدت بوقف قبول البطاقات المصرفية من الزبائن. الجدير ذكره أن السوبرماركات (ليس كل السوبرماركات) تقبل دفع نصف الفاتورة بالبطاقة المصرفية والنصف الأخر نقدًا. هذا التهديد دفع بوزير المال تأجيل تطبيق القرار.

من المعروف والبديهي أن الكتلة النقدية الموجودة بالتداول موزّعة بين التجار والصيارفة والقطاعات الإقتصادية الأخرى وبنسبة أقلّ بين المواطنين. وتأتي المهن التي تتعامل مع المواطنين مباشرة (السوبرماركات، الصيارفة، محطات الوقود، المولدات، الإنترنت...) لتحتل المرتبة الأولى من ناحية إستحواذها على الليرة اللبنانية بحكم أنها تتلقّى هذه الأموال من المواطنين. وهذا الكم الكبير (أكثر من 70% من الكتلة المتداولة) يجعل من هؤلاء أول المتعاملين في السوق الموازي. من هذا المُنطلق، نرى أن إمتصاص الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق لا يُمكن أن تتم عبر التعميم 161 فقط، بل يجب أن تمر عبر وزارة المال من خلال دفع الضرائب (الدخل، والرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة) نقدًا. هذا الأمر يسمح بإمتصاص الفائض من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية ويجعل المضاربة على الليرة أقلّ. الجدير ذكره أن آلية عمل التجار تنصّ على تحويل كل ما يحصلوا عليه من ليرات من زبائنهم إلى دولارات ويتم تحويل هذه الدولارات إلى الخارج بحجّة الإستيراد (من دون أن يكون هناك إستيراد بكامل المبلغ!). وتتكرّر هذه العملية بشكل متواصل مع تكديس للأرباح في حسابات خارجية من دون أن يكون لوزارة المال من قدرة على معرفة حجم هذه الأرباح نظرًا إلى أن المصارف اللبنانية لا تُصرّح لوزارة المال بحجم تحاويل التجار!

من هذا المُنطلق، نرى أنه يتوجّب على وزير المال الذهاب أبعد في قراره من خلال إلزام التجار (بالتحديد كل من له علاقة مع المواطنين ويقبض منهم بالليرة اللبنانية) دفع كل الضرائب نقدًا. وإذا ما نفّذت السوبرماركات تهديها وأوقفت قبول الدفع بالبطاقات، فما على مصرف لبنان إلا الإيعاز للمصارف بإعطاء المودعين الأفراد من حساباتهم بالليرة اللبنانية كميات توازي ما كانوا يسحبونه نقدًا من حساباتهم بالإضافة إلى ما كانوا يدفعونه بالبطاقات المصرفية. وبالتالي، فإن حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية سيتقلّص بشكل مُلفت وهو ما قد ينعكس على سعر صرف الدولار الأميركي في السوق الموازي.

أضف إلى ذلك، إذا قامت كل مؤسسات الدولة التي تُقدّم خدمات إلى هؤلاء التجار بطلب تسديد الفاتورة نقدًا وبالليرة اللبنانية، فإن هذا الأمر سيكون له تداعيات إيجابية على قيمة الليرة.

وقد يقول البعض أن هذا الأمر سيدفع التجار إلى الإقفال، إلا أن هذا الأمر غير صحيح بحكم أن الأرباح التي يُحقّقها هؤلاء هائلة وبالتالي لا يُمكنهم الانسحاب من السوق.