تتكفل الأزمات بإخراج الإمكانات الحقيقية للكيانات، سواء كانت أفراداً أو مجتمعات. وعادة ما تبدأ التحولات الجوهرية في الاقتصاد نتيجة الظروف القاهرة، ومنها تنطلق إلى الاجتماع والسياسة وبقية المجالات. في لبنان حدث العكس. الأزمة عمّقت "رتابة" النمط الاقتصادي القائم، هذا إن لم نقل جعلته أكثر ابتذالاً، والدليل: الميزان التجاري.
بحسب أحدث الأرقام المنشورة من قبل إدارة الجمارك، بلغ عجز الميزان التجاري في العام الماضي 14.2 مليار دولار. وهو إن كان حقق تراجعا بنسبة 2.3 في المئة عن العام 2023، إلا أنه بقي مختلاً على كافة المستويات.
عجز الميزان التجاري الناتج المحلي
في الوقت الذي انخفض فيه إجمالي الصادرات بنسبة 9.6 في المئة إلى 2.7 مليار دولار فقط، استورد لبنان سلعا وبضائع بقيمة 16.9 مليار دولار. وإذا ما انطلقنا جدلاً من أن حجم الناتج المحلي الإجمالي المقدر من جهات عالمية، منها البنك الدولي، 21 مليار دولار، لوجدنا أن الاستيراد يشكل 80 في المئة من الناتج، وهذا رقم غير منطقي. أما إذا كان حجم الناتج الاجمالي باحسن التقديرات 32 مليار دولار، فإن حجم الاستيراد بشكل 52 في المئة منه. وهذا الرقم أيضا كبير وغير منطقي بالنسبة لبلد خسرت عملته 98 في المئة من قيمتها، ويعاني 23 في المئة من سكانه (لبنانيين وسوريين) من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بحسب "التصنيف المرحلي المتكامل" للفترة الممتدة من نيسان إلى أيلول 2024.
دلائل العجز الهائل في الميزان التجاري
تدل أرقام الواردات على عدم وجود أي تغيير يذكر في النمط الاستهلاكي، وذلك رغم وقوع لبنان تحت وطأة الحرب طيلة العام 2024، وتراجع أعداد السياح بشكل كبير، وانخفاض تحويلات المغتربين إلى 5.7 مليار دولار، وتأثر حركة الشحن البحري سلبا نتيجة الاحداث في البحر الأحمر، والجوي نتيجة توقف شركات الطيران من القدوم إلى لبنان. الواردات لم تنخفض إلا بنسبة 3.5 في المئة، وحلت المنتجات المعدنية في رأس قائمة المستوردات بنسبة 26 في المائة بقيمة 4.39 مليار دولار، تبعها اللؤلؤ والأحجار الكريمة والمعادن بقيمة 2.57 مليار دولار، ومن ثم منتجات الصناعات الكيميائية أو المرتبطة بها بقيمة 1.39 مليار دولار.
شكلت الصين واليونان وسويسرا الوجهات الأكبر للاستيراد. حيث بلغت حصتها 11.55 في المئة، و8.65 في المئة، و6.57 في المئة على التوالي من إجمالي قيمة الواردات. وبلغت القيمة الإجمالية للسلع المستوردة من هذه البلدان 1.95 مليار دولار، و1.46 مليار دولار و1.11 مليار دولار.
على صعيد الصادرات شكل تصدير اللؤلؤ والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، وفي مقدمتها الذهب، الحصة الأكبر من الصادرات بنسبة 21.14 في المائة، بقيمة 572 مليون دولار. ويعتبر هذا النوع "إعادة تصدير" في أحسن الأحوال، إن لم نقل طريقة لتهريب الأموال. وهذا ما بين عليه الارتفاع الهائل في صادرات الذهب إلى سويسرا منذ بدء الانهيار في العام 2020.
حلـّت الأغذية الجاهزة والمشروبات والتبغ ثانيا في قائمة الصادرات بنسبة 15.24 في المائة، بقيمة 412.6 مليون دولار، والمعادن الأساسية ومصنوعاتها في المرتبة الثالثة بنسبة 15 في المائة بقيمة 405.64 مليون دولار.
أما على صعيد وجهات التصدير الاساسية فقد احتلت الإمارات العربية المتحدة والعراق وتركيا، المراكز الأولى. حيث استحوذت على حصص بلغت 19.06 في المئة و5.82 في المئة و5.67 في المئة، على التوالي من إجمالي قيمة الصادرات. وبلغ إجمالي قيمة السلع المصدرة إلى هذه الدول 516 مليون دولار و157 مليون دولار و154 مليون دولار.
خسارة أسواق أساسية
عدا عن العجز الفاضح في عدم استفادة لبنان من تراجع قيمة عملته لزيادة صادراته خلال العام الماضي، وارتفاع أكلاف الإنتاج على الصناعيين والزراعيين، فقد أدت مجموعة أخرى من العوامل إلى تراجع الصادرات، منها:
- الحرب التي استمرت طيلة العام 2024، وتحولت إلى عنيفة في الفصل الرابع والأخير منه. وقد أدت الحرب إلى توقف الإنتاج في ثلث المساحات الزراعية، وتراجع انتاج المصانع بنسبة وصلت إلى 30 في المئة.
- ارتفاع أكلاف التصدير البحري والجوي نتيجة تعطل الملاحة في البحر الأحمر، ومنه إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس، وتراجع عدد شركات الطيران القادمة إلى لبنان، وصولاً إلى توقفها كليها بعد شهر أيلول.
- صعوبة التصدير البري عبر سوريا نتيجة ارتفاع الكلف من جهة، وتعطل معبر المصنع نتيجة القصف في الفصل الرابع من العام من جهة أخرى.
- استمرار الحظر المفروض من المملكة العربية السعودية على البضائع اللبنانية استيراداً، ومرورا عبر أراضيها. وكانت الصادرات إلى المملكة تشكل قبل توقفها في العام 2021 ثقلاً اساسياً في عملية التصدير. إذ إن المملكة هي من الدول القلائل التي يحقق معها لبنان فائضاً في الميزان التجاري. وقد بلغ الفائض 35 مليون دولار في العام 2020، الذي سبق فرض الحظر. كما كانت قيمة الصادرات إلى المملكة وحدها تبلغ حوالي 260 مليون دولار، وهي صادرات انتاجية تمتلك قيمة مضافة مرتفعة وتعود بالفائدة الكبيرة على القطاعات الصناعية والزراعية.
العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات
العجز الكبير في الميزان التجاري، يقوض كل ايجابيات تحقيق ميزان المدفوعات فائضاً، وهي المزاعم التي يتبجح بها المسؤولون. وتبين أن هذه الزيادة اسمية أو محاسبية نتيجة زيادة قيمة الذهب في مصرف لبنان، وزيادة أموال المصارف في المصارف المراسلة، وتخفيض قيمة العملة، وليست فعلية. فبحسب آخر المعطيات حقق ميزان المدفوعات في تشرين الثاني 2024 فائضاً على أساس سنوي بقيمة 7.2 مليار دولار. ومن المعلوم أن ميزان المدفوعات يتكون من:
- الحساب الجاري: يقيس الميزان التجاري للدولة، بالإضافة إلى تأثير صافي الدخل والمدفوعات المباشرة.
- الحساب المالي: يقيس التغيّر في الملكية المحلية للأصول الأجنبية والملكية الأجنبية للأصول المحلية.
- حساب رأس المال: يقيس المعاملات المالية التي لا تؤثر على دخل الدولة، أو إنتاجها، أو مدخراتها.
وعليه فإن العجز الهائل في الحساب الجاري نتيجة عجز ميزان المدفوعات بقيمة 15 مليار دولار، أكبر بما لا يقاس من النتائج الايجابية المحققة في الحساب المالي ورأس المال، وملموس.
العجز الكبير في الميزان التجاري المدفوع بتراجع الصادرات يتطلب معالجة جدية على ثلاثة مستويات اساسية، تتمثل:
- تخفيض الكلف الانتاجية وهذا لا يتم إلا بإصلاح الكهرباء وحسن ادارة المياه وتخفيض كلفة الاتصالات وتحسين جودتها.
- تحسين العلاقة مع الدول العربية الشقيقة، ورفع قيمة الصادرات إليها.
- اعتماد سياسة تحفيزية لتشجيع الإنتاج وزيادة الاستثمارات.
لعل تشبيه لبنان بجيل "أبو ضرسين" يصيب كبد الحقيقة. فهذه التسمية التي تُطلقها الاجيال السابقة على الجيل اللاحق للدلالة على عدم مسؤوليته تبقى خير تعبير عن الحالة اللبنانية. فكما الجيل الأخير "حكي ما بيسمع، ودي ما بيرجع، طعمي ما بيشبع"، هكذا حال لبنان الذي يرفض الإصلاح منذ سنوات ويستمر في الإهمال وعدم الانتظام، والارقام تبقى خير دليل.