وجد موظفو المصارف أنفسهم بعد مرور أشهر قليلة على الانهيار المالي، ضحية "تأثير كرة الثلج". فالحدث المزلزل الذي انطلق صغيراً من "فالق" تمنُّع إدارت مؤسساتهم عن الدفع للمودعين، لم يلبث أن بدأ بالتدحرج، "حاصداً" امتيازاتهم ومهدداً بقطع أرزاقهم. لم يشفع تلقي الموظفين، أقله من هم في الواجهة، رصاصات غضب المودعين، الفعلية والمعنوية، بصدورهم العارية لإنصافهم. ولم يشفع بهم احتفاظ البنوك بأرباح السنوات الماضية الكبيرة. فطُبقت عليهم المادة 50 من قانون العمل، التي يحلو لنقيب الموظفين السابق اسد خوري تسميتها بـ"البائدة". أما إذا كانت المصارف كريمة "فتضربها بـ 2". وحرموا من التقديمات. وحولت رواتبهم إلى الليرة. وأُجبروا على الاستقالة الفردية والجماعية. وفيما كانت أوضاع أقرانهم من موظفي الشركات الخاصة المادية والاجتماعية تتحسن تدريجياً، ظلت أحوال موظفي المصارف تتراجع وصولا إلى تسليط سيف إعادة الهيكلة والاندماج أو التصفية على رؤوسهم حديثاً.
خرج خلال السنوات الخمس الماضية 11620 موظفاً من المصارف اللبنانية، بتعويضات زهيدة. وبحسب ما يتبين من الرسمين البيانيين المرفقين، كانت أعداد الموظفين تتراجع تدريجياً بالتوازي مع تصغير حجم القطاع المصرفي وتخفيض تكاليفه. فمع تراجع عدد فروع البنوك من 1058 فرعا في كانون الاول 2019، إلى 635 فرعاً في تشرين الثاني 2024، تراجع عدد الموظفين في الفترة نفسها من 24704 إلى 13084 موظفاً. عمليات الصرف أو "الاستقالة الجبرية"، كما يحلو للموظفين تسميتها، لم تنحصر فقط بالفروع المقفلة، بل طالت مختلف الاقسام والدوائر؛ ولو أنها أخذت شكلاً هرمياً. "إذ تركز العدد الأكبر من المصروفين في أقسام خدمة الزبائن وموظفي الصناديق في الفروع، وموظفي المكاتب، والمسوقين للقروض وبطاقات الائتمان"، بحسب ما يفيد أحد الموظفين. "وتناقص عدد المصروفين أو المستقيلين، تدريجياً وصولاً للوظائف الادارية العليا. وذلك نظراً لتمتع المدراء بمزايا وظيفية كبيرة واستفادتهم من حساباتهم البنكية صرفاً وتحويلاً، ومن "صيرفة" وغيرها العديد من العمولات والعلاوات والامتيازات التي ظلت تعطى لهم رغم توقف المصارف عن السداد.
تعليق عقد العمل الجماعي
خلافاً لحالة الانتظام الوظيفي بين موظفي المصارف وإدارتهم التي ظلت سائدة خلال سنوات ما قبل الانهيار وشكلت مضرب مثل، وحالة يحسد عليها عمال المصارف، دبت الفوضى بعد العام 2019. فـ"عقد العمل الجماعي" مع جمعية المصارف، الذي كان يرعى هذه العلاقة، لم يجدد منذ العام 2020، بحجج واهية لا تبرر حجم المعاناة التي نعيشها"، قال رئيس نقابة موظفي المصارف ابراهيم باسيل خلال جمعية عمومية لمستخدمي المصارف مطلع الأسبوع الحالي. "ولم يعد مقبولاً التأخير في تجديد العقد الجماعي الذي يشكل الضمانة الأساسية لاستقرارنا المهني والاجتماعي" . وأضاف باسيل "لقد كانت جمعية المصارف تتذرع بانشغالها بالانتخابات لتبرير تأخير البت في هذا الملف، أما اليوم وبعد انتهاء الانتخابات فقد انتفى هذا العذر، ولم يعد هناك أي مبرر للمماطلة والتسويف".
التحضير لأوسع عملية صرف
تهرب المؤسسات من تجديد عقد العمل الجماعي، الذي تُنظم بمقتضاه شروط العمل من رواتب وتأمينات وتعويضات صرف.. مرتبط بإعادة الهيكلة. وسواء كانت اعادة " الهيكلة تعني تصفية المصارف الحالية لصالح مصارف جديدة مملوكة ممن كانوا السبب في إفقار الشعب اللبناني، أو المقصود بها إجبار المصارف الصغيرة الدمج بالمصارف الكبيرة، نحن كموظفين سنكون الضحية في الحالتين"، كما عبر باسيل خلال الجمعية العمومية.
اقتراح قانون إنصاف موظفي المصارف
ما يطلبه موظفو المصارف هو تعديل المادة الرابعة من قانون الدمج، آنفة الذكر، وقد أعلن رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج أن "الاتحاد كان قد تقدّم بمشروع قانون لتعديل المادة الرابعة من قانون الاندماج المصرفي تعويضات الصرف في العام 2022، من خلال كتلة نواب الجمهورية القوية. "لكن الاقتراح ما زال في أدراج اللجان المشتركة". وينص التعديل على خضوع عمليات الصرف التي تحصل خلال مهلة الأشهر الستة التي تلي الاندماج على التالي:
- استفادة الموظفين من تعويض إضافي يعادل ما يستحقه كتعويض نهاية خدمة شرط أن لا يقل هذا التعويض عن راتب عشرون شهراً للسنة الأولى، ويُضاف شهرين عن كل سنة خدمة لغاية ستة وثلاثون سنة خدمة، على أن تحتسب سنين الخدمة المتواصلة في القطاع المصرفي وليس في المصرف الحالي، إلا في حال كان الموظف قد استفاد من تعويض دمج سابق.
- استفادة الموظفين المصروفين من تأمين صحي لمدة سنة من تاريخ الصرف.
- ينحصر حق الموظفين المصروفين بالتعويضات المنصوص عليها في هذه المادة وتعفى هذه التعويضات الإضافية من أي ضريبة على الدخل.
التعويض يجب ألا يقل عن 40 ألف دولار
المقترح على أهميته كان صالحا في العام 2021 تاريخ التقدم به، نظراً لكون سعر صرف الليرة مقابل الدولار، كان أقل من 5000 ليرة. "وقد حذرنا وقتها أن تجاوز سعر الصرف الـ 10 الاف ليرة، يتطلب تعديل هذا الاقتراح"، يقول خوري. ومع هذا، يشكل هذا المقترح انطلاقة لفتح النقاش في المجلس النيابي للضغط لتحصيل الحقوق. ومن المفترض برأيه من بعد رفع الراتب الأساسي إلى حدود 550 دولار دولار، وتسديد تعويض يساوي حوالي 70 راتباً، يرتفع تعويض الصرف إلى حدود 40 الف دولار. وهذا هو الرقم العادل للتعويضات الذي نطالب به.
النزال في الأيام المقبلة سيكون كبيراً بين المصارف وموظفيها من جهة، وبينها وبين الدولة من الجهة الثانية. وهي إن نجحت في الضغط لعدم الدخول في إعادة الهيكلة الشاملة كونها غير متعثرة، أنما دائنة للدولة ومصرف لبنان، فإنها ستقلص حجمها حكماً؛ إن لم يكن لتخفيض التكاليف، فالتماشي مع تراجع حجم الاقتصاد أقله بنسبة 30 في المئة، وعدم إمكانية توظيف أموالها في الدين العام. وعليه سيكون الموظفون أمام عملية تسريح جديدة، وإن لم تعدل المواد التي يصرفون على أساسها فسيلحقهم غبناً كبيراً، أسوة بكل الموظفين في القطاع الخاص المسجلين على أساس الحد الأدنى للأجور، وموظفي القطاع العام.