من سلطنة عُمان إلى سلطنة عثمان وما بينهما إيران، تفتح الولايات المتحدة الاميركية في هذه المرحلة ورشة ديبلوماسية يفترض أن تنتهي أولاً بوقف الحرب الأوكرانية لتتفرّغ بعدها لتدبّر أمر إيران ديبلوماسيا أو عسكرياً، ومن ثم التفرغ لأمر الشرق الأوسط ومستقبله ومستقبل إسرائيل فيه، عبر حسم مصير لبنان وسوريا في ظل الحرب التي تشنها إسرائيل عليهما كل منهما حسب واقعه.

فالحرب الإسرائيلية على لبنان لم تنته. وتواصل اسرائيل خرق اتفاق وقف إطلاق النار بعدم استكمال انسحابها من المناطق الحدودية التي احتلتها خلال الحرب، وباستمرار غاراتها الجوية جنوب الليطاني وشماله وصولا الى منطقة البقاع. وتستند بذلك الى كتاب "الضمانات" الأميركية المعطى لها للقضاء كليا على القوة العسكرية لحزب الله، في الوقت الذي يشعر الحزب أنه يتعرض لحرب سياسية في الداخل تغذّيها محاولات التضييق عليه وإعاقة المساعدات المطلوبة لإعادة إعمار ما هدمته الحرب، علّ ذلك يؤلّب بيئته الحاضنة عليه.

وفي ظل الاتصالات والتحركات الدبلوماسية الإقليمية والدولية، اتضح أن الصفقة التي أعِدّت في الكواليس قد بدأ تنفيذها وهي تقضي بوضع الولايات المتحدة يدها على الشرق الأوسط، والمقصود بالشرق الاوسط تحديدا هو لبنان وسوريا والعراق واليمن بالإضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة بساحاتها الملتهبة، باعتبار أن بقية الدول هي على علاقات تحالف استراتيجي مع واشنطن منذ عشرات السنين.

وغالب الظن أن سقوط النظام السوري كان الإيذان ببدء تنفيذ الصفقة التي يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدأها وأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سينهيها. بوتين دعا بشار الأسد إلى موسكو فيما كانت جحافل "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) تتحرك من إدلب في اتجاه حلب وحماه، ليعود منها الى دمشق ثم يغادرها طوعا وبلا مقاومة إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في الساحل السوري لينتقل منها إلى روسيا.

الولايات المتحدة تريد إلحاق لبنان وسوريا بركب التطبيع

وترامب دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إلى البيت الأبيض وكان اللقاء عاصفا بينهما وخرج عن اللياقات الديبلوماسية وانتهى بطرد زلنسكي من البيت الأبيض في حادثة لا سابق لها. وكان جدول الأعمال يتضمّن توقيع صفقة المعادن الأوكرانية التي تتيح لواشنطن الحصول على نصف مردود التعدين مقابل ما تكبدته من تكاليف دعما لكييف في الحرب ضد روسيا. ومن المرجّح توقيع هذه الصفقة لاحقا، لأنها من ضمن الحل المرتقب للحرب الروسية ـ الاوكرانية. وفيما لم يرُقْ لدول الاتحاد الاوروبي ما حصل لزلنسكي في البيت الأبيض، لم يكترث ترامب لهذا الأمر. ولكن من الواضح أن خلفية ما جرى في البيت الأبيض تؤكد وجود قرار كبير بوضع حد للحرب الاوكرانية، قد يبدأ تنفيذه في ضوء القمة المرتقبة في السعودية بين ترامب وبوتين. والسؤال هنا: هل سيتمّ الحل الأوكراني بوجود زيلنسكي أم رئيس آخر أو قيادة جديدة، بعد ما رُوِّج عن احتمال تنحيه ولجوئه الى فرنسا؟

يُحكى أن الحلّ الذي استوجب تنحّي الأسد قد ينسحب على زلنسكي، ويبدو أن الحلَّين السوري والاوكراني طبخهما ترامب وبوتين بعيدا من الاضواء في الأشهر الاخيرة. ولم تكن تركيا وإيران وبعض دول المنطقة بعيدة عن هذا الجو، خصوصا أن أكثر من مسؤول إيراني كشف أن إيران كانت على علم مسبق باستعدادات "هيئة تحرير الشام" وغيرها من الجماعات المسلحة للهجوم على مناطق سيطرة النظام السوري وقد اخطرت الأسد بها في حينه. أما المفاجأة لاحقا فكانت رفضَ جيش النظام المقاومة فسقطت حلب وحماه ثم حمص بسهولة. وكان الأسهل سقوط دمشق بلا مقاومة من حاميتها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري أو غيرهما.

وقد بات واضحا الآن أن الولايات المتحدة تريد إلحاق لبنان وسوريا بركب التطبيع. فقد نقلت "وكالة الصحافة الفرنسية" أخيرا عن المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف أنه متفائل في احتمال إقناع المملكة العربية السعودية بالانضمام إلى اتفاقات أبراهام الموقعة عام 2020. وأعرب عن اعتقاده أن من الممكن أن يلحق لبنان وسوريا بقطار التطبيع بعد "الانتكاسات" التي تعرّضت لها القوى الموالية لإيران فيهما، وأن هناك كثيراً من المتغيّرات العميقة التي تحدث.

ويبدو أن عبارة "المتغيرات العميقة" تعني ما يشهده لبنان وسوريا الآن وما سيحدث في الأشهر المقبلة، خصوصا مع خرق إسرائيل المستمرّ لوقف إطلاق النار في لبنان والحراك الدبلوماسي اللبناني في اتجاه أميركا وفرنسا والأمم المتحدة لوقفه والبدء عمليا بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1701 بكل مندرجاته. وثمّة تخوف من أن تتمسك إسرائيل بعدم الانسحاب للضغط على لبنان وجره الى معاهدة "تطبيع" أو سلام. وهي مخاوف تقابلها مخاوف سورية من أن يكون الاحتلال الاسرائيلي لأعلى قمة في جبل الشيخ ومناطق من الجنوب السوري شمال المنطقة العازلة عن الجولان المحتل، مقدّمة لفرض معادلة تطبيع وسلام على السلطة السورية الجديدة بعدما دمرت إسرائيل كل المقومات العسكرية التي تركها النظام السابق وراءه. ولكن هذا الأمر يتوقف على طبيعة الحكومة التي يشكلها الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقد تأتي خليطا سياسيا يضم غالبية الأطياف السورية بما يرضي العرب والأتراك.

أما بالنسبة إلى إيران التي يخرجها ترامب من حساباته في شأن الشرق الأوسط، فإن الإدارة الاميركية تفضّل حتى الآن اعتماد الخيار الديبلوماسي قبل اللجوء إلى خيارات أخرى للتوصل إلى اتفاق جديد معها حول ملفها النووي على رغم من إلحاح إسرائيل الشديد على اعتماد الخيار العسكري لأنها تعتبرها رأس حربة "محور المقاومة" الذي يناهضها منذ عشرات السنيين. إلا أن اعتبارات روسية وصينية تتحكم بأي خيار غير ديبلوماسي يمكن واشنطن ان تلجأ اليه ضد إيران التي تربطها بيجينغ وموسكو مصالح واتفاقيات كبيرة لا بد لواشنطن أن تأخذها في الاعتبار.

ومع ذلك فإن الأوساط الديبلوماسية العليمة بالشأن الإيراني تؤكد أن الإيرانيين قد وطّنوا أنفسهم على مواجهة أحد أمرين: التعرض لضربة عسكرية تستهدف المنشآت النووية والاستراتيجية الإيرانية، أو إجراء مفاوضات جدية و استراتيجية مع واشنطن لتوقيع اتفاق نووي جديد.

وثمة من يقول إن الخيار الأميركي هو الديبلوماسي لأن أي هجوم عسكري أميركي ـ إسرائيلي على إيران قد يشعل المنطقة ويؤدي إلى تضرر مصالح الجميع. وقد يعطّل كثيرا من التسويات التي يُعمَل على إنجازها حاليا، خصوصا إذا لم تلحظ هذه التسويات قيام دولة للفلسطينيين عاصمتها القدس الشرقية حسب ما تشترط المملكة العربية السعودية قبل الشروع في معاهدة سلام أو تطبيع مع إسرائيل. وتقف خلفها في هذا الشرط كل الدول العربية، وحتى إيران نفسها ايضا.