تاريخيًا، بقيت أوروبا قادرة على التطور بعد الأزمات والتقدم تباعًا. لكن الأزمة الحالية، بعمقها واتساع نطاقها، تطرح تساؤلات جوهرية: هل ستستمر القارة في مسارها وكأن شيئًا لم يكن؟ وهل ستسير نحو الفيدرالية أم ستتمسك بسيادة الدول القومية؟ أم سيؤدي الجمود السياسي إلى تفككها وانفجارها من الداخل؟
في حقبة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اهتزت الأسس الديبلوماسية التي وضعها رموز السياسة العالمية مثل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وأعيدت روسيا إلى موقعها كقوة كبرى، كما كان الحال إبان الحرب الباردة، في حين تم تأجيل – إلى متى؟ – المواجهة الحتمية بين الولايات المتحدة والصين.
كذلك، يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم معضلة وجودية قائمة على تساؤل: هل سيظل كيانًا أوروبيًا مستقلًا، أم سيسقط بالكامل تحت الهيمنة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة أو روسيا؟ مجرد طرح هذا السؤال قبل أشهر قليلة، خلال ذروة الحرب في أوكرانيا، كان سيبدو عبثيًا، لكنه الآن مطروح بجدية.
تكمن المفارقة في أن القوى الكبرى، سواء الولايات المتحدة أو روسيا، تحمي بقوة قيمها الوطنية، بينما عملت أوروبا الفيدرالية على تهميش الخصوصيات الوطنية لدولها المؤسسة. فالنتيجة باتت واضحة: تغرق القارة في أزمة وجودية، وقياداتها تواجه صدمة الواقع. كشفت الحرب في أوكرانيا ضعف أوروبا في المشهد العالمي: بلا جيش موحد، بلا سياسة خارجية واضحة، وبلا وحدة حقيقية. وحتى المحرك الأساسي للقارة – التحالف الفرنسي-الألماني – بات مشلولًا، بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية الداخلية التي تعصف بكلا البلدين، ما جعلهما غير قادرين على اتخاذ أي مبادرة.
أحد أبرز تجليات هذا الضعف كان استبعاد أوروبا من المفاوضات الثنائية بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول أوكرانيا، رغم أنها الطرف الأكثر تأثرًا بالنزاع. هذه القارة، التي تضم دولًا متباينة، معظمها بلا قوة عسكرية كبرى وتعاني تراجعًا اقتصاديًا، لم تعد تخيف أحدًا. وفي عالم السياسة القائم على القوة، من لا يُحسب له حساب، يصبح مجرد كيان هامشي.
أما اليوم، نجح بوتين في توسيع نفوذ روسيا جغرافيًا واستراتيجياً، وانتشلها من حال الركود ما بعد السوفياتي. وفي المقابل، استفادت الولايات المتحدة من الحرب الأوكرانية لترسيخ التبعية الأوروبية لها في مجال الطاقة، ما منحها نفوذًا غير مسبوق. والأخطر، أن الدول الأكثر تعرضًا للتهديد الروسي – مثل فنلندا، دول البلطيق، بولندا ورومانيا – ستعتمد لعقود مقبلة على الصناعات الدفاعية الأميركية، ما يكرس النفوذ الأميركي في المنطقة.
قد لا يكون الأسوأ حتميًا، لكن المحو التدريجي لأوروبا كقوة عالمية أصبح واقعًا يتبلور مع مرور الوقت. ففي ظل صراع الهيمنة بين الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، لم يعد هناك مكان لهذه "أوروبا الصغيرة" التي لم تنجح حتى اليوم في فرض نفسها كفاعل أساسي في النظام العالمي الجديد.