يشهد القطاع الزراعي في لبنان تحديات متزايدة تهدد استمراريته، إذ لم تقتصر الأزمات التي يعاني منها على الجوانب الاقتصادية والسياسية فقط، بل امتدت لتشمل التغيرات المناخية التي تضيف مزيداً من التعقيدات أمام المزارعين. فبعد سنوات من عدم الاستقرار في عمليات التصدير نتيجة إغلاق بعض المعابر البرية وتأثيرات الحروب الإقليمية، باتت العوامل الطبيعية تلعب دوراً حاسماً في تحديد مصير الإنتاج الزراعي في البلاد.
تراجع كميات المتساقطات وتأثيرها على الزراعة
خلال الموسم الشتوي الحالي، شهد لبنان انخفاضًا غير مسبوق في كميات المتساقطات، مما أثار مخاوف كبيرة لدى المزارعين الذين يعتمدون بصورة أساسية على مياه الأمطار لري محاصيلهم. ووفقًا للخبراء، فإن هذا التراجع مقارنة بالمعدلات السنوية المعتادة يهدد المحاصيل الموسمية والأشجار المثمرة، مما قد يؤدي إلى خسائر اقتصادية فادحة في القطاع الزراعي.
تشير الإحصاءات إلى أنّ كميات المتساقطات لهذا الموسم تراوحت بين 240 و250 ملم فقط، في حين أنّ المعدل السنوي المعتاد يفترض أن يكون حوالي 400 ملم على الأقل في نفس الفترة. ويزداد الوضع سوءًا عند مقارنته بالموسم السابق، حيث بلغت كميات الأمطار 700 ملم، مما يعكس التراجع المقلق في معدلات الهطول هذا العام.
انعكاسات ندرة المياه على الإنتاج الزراعي
يشرح الخبير البيئي الدكتور أنطوان ضاهر في حديثه لموقع "الصفا نيوز" أنّ لندرة المياه انعكاسات مباشرة على الإنتاج الزراعي ويعدد منها:
1. تأثير مباشر على المحاصيل: تعاني المحاصيل الموسمية كالقمح والخضروات والفواكه من نقص المياه، مما يؤثر على حجم الإنتاج وجودته.
2. خطر الجفاف على الأشجار المثمرة: يؤدي نقص المياه إلى إجهاد الأشجار المثمرة، مما يضعف إنتاجيتها ويجعلها أكثر عرضة للأمراض.
3. زيادة تكاليف الري: يضطر المزارعون إلى الاعتماد على مصادر مياه بديلة مثل الآبار والري بالتنقيط، مما يزيد من التكاليف التشغيلية.
4. تراجع الإنتاج الحيواني: يؤثر نقص المياه أيضًا على المراعي والمواشي، حيث يجد مربو الماشية صعوبة في تأمين الأعلاف والمياه اللازمة للماشية.
العاصفة "أسيل" وأمل المزارعين
وسط هذه المخاوف، حمل شهر شباط معه العاصفة الثلجية "أسيل"، التي أعادت الأمل إلى المزارعين الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر هطول الأمطار لتعويض النقص الحاد المسجل خلال الأشهر الماضية. وعلى الرغم من أن هذه العاصفة قد تساعد في تقليل الخسائر وإنقاذ ما تبقى من الموسم الزراعي قبل حلول الصيف، إلا أن المشكلات الأساسية ما زالت قائمة.
في هذا الإطار، أكد رئيس تجمّع المزارعين والفلاحين في البقاع، إبراهيم الترشيشي، أن "الجميع ينتظر قدوم الأمطار على أحرّ من الجمر، فالموسم الزراعي بات مهددًا بصورة كبيرة بسبب ندرة المتساقطات"، آملاً أن تكون العاصفة غزيرة الأمطار وشديدة البرودة، لأنها ضرورية ليس فقط لري المزروعات، بل أيضًا للقضاء على الأمراض التي تصيب الأشجار والحقول.
تغير أنماط الطقس وتحديات الأمن المائي
يشير الخبراء إلى أن تغيّر أنماط الطقس في لبنان أصبح واقعًا لا يمكن تجاهله، حيث تشهد البلاد تراجعًا مستمرًا في معدلات هطول الأمطار منذ خمسينيات القرن الماضي. ويرجع ذلك إلى ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية التي أثرت بشكل واضح على ارتفاع درجات الحرارة في لبنان، مما زاد من معدلات التبخر وقلّل من كميات المياه المتاحة للري.
ويحذر المختصون من خطر تحول لبنان إلى بلد يعاني من أزمة مياه مستدامة، خاصة مع سيطرة إسرائيل على مناطق استراتيجية في جبل الشيخ، والتي تعتبر مصدرًا أساسيًا للمياه للبنان.
تأثيرات الأزمة على الموارد المائية
حيث لفت الخبير البيئي هلال كيلاني في حديثه لموقع "الصفا نيوز" إلى أنّ الأزمة المناخية سيكون لها تأثير حاد على الموارد المائية وسيظهر ذلاك عبر:
تأثيرات الأزمة على الموارد المائية
1. انخفاض منسوب الأنهار والبحيرات: تعاني بحيرة القرعون من أزمة مياه طاحنة، حيث لم تتخط نسبة المياه فيها 23 مليون متر مكعب، بينما كان يجب أن تصل إلى 100 مليون متر مكعب.
2. تراجع القدرة على توليد الكهرباء: بسبب انخفاض مستويات المياه، تراجعت القدرة على إنتاج الكهرباء من السدود الكهرومائية، مما ينعكس على ارتفاع كلفة الكهرباء.
3. ارتفاع أسعار المياه: مع تراجع مصادر المياه الطبيعية، يضطر المزارعون والمواطنون إلى شراء المياه، مما يزيد الأعباء المالية.
الحلول المقترحة لمواجهة الأزمة
في ظل هذه التحديات، يصبح من الضروري البحث عن حلول مستدامة لمواجهة أزمة المياه وتأمين استدامة القطاع الزراعي في لبنان، واتفق الخبيرين على ضرورة:
1. تطوير أنظمة ري حديثة: مثل الري بالتنقيط والري الذكي الذي يعتمد على التكنولوجيا لتقليل استهلاك المياه.
2. الاستثمار في تقنيات الزراعة المقاومة للجفاف: عبر زراعة أصناف تتحمل الجفاف وتحتاج إلى كميات مياه أقل.
3. إعادة تدوير المياه: معالجة مياه الصرف الصحي واستخدامها في الري يمكن أن يكون حلاً عمليًا.
4. بناء سدود إضافية: لزيادة القدرة التخزينية للمياه والاستفادة منها في الفترات الجافة.
5. تعزيز التوعية والتدريب: توجيه المزارعين لاستخدام أساليب حديثة في الزراعة تقلل من استهلاك المياه.
6. التعاون الإقليمي: البحث عن اتفاقيات مع دول الجوار لتعزيز الأمن المائي.
في المحصّلة، مع استمرار تأخر الأمطار وتزايد تحذيرات الجفاف، بات المزارعون يواجهون تحديًا وجوديًا يهدد مستقبل القطاع الزراعي في لبنان. ورغم الأمل الذي حملته العاصفة "أسيل"، فإن الحلول المستدامة تبقى السبيل الوحيد لضمان استمرار الزراعة في ظل التغيرات المناخية المتسارعة. فهل يدفع هذا الوضع السلطات اللبنانية إلى اتخاذ إجراءات حاسمة، أم أن الأزمة ستتفاقم في المواسم القادمة؟