بجرّة قلم، أعيد إدراج لبنان للمرة الثانية على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي. بين الإدراج الأول في العام 2000، والثاني في تشرين الأول 2024، 22 عاماً من إعداد قوانين مكافحة الفساد وتبييض الأموال ومحاربة الجرائم المالية، "رماها" المسؤولون في "بحر" الإهمال. طبقات من اللامبالاة الرسمية المغلَّفة بالمصالح الفئوية، "تَدفن" تحتها "شقعة" من النصوص التشريعية الحديثة، وتجعل من الوصول إليها، وتطبيقها، مهمة شبه مستحيلة.
إن كان معلوماً أنّ سبب إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سببه الفشل في تنفيذ 46 إجراءاً تصحيحياً؛ 21 منها لم تنفذ بتاتاً و25 نفذت بشكل جزئي، فانّ من غير المعلوم أن أحد أسباب إدراج لبنان كان الإهمال"، وذلك بحسب دراسة مفصَّلة مستندة إلى مراسلات رئاسة مجلس الوزراء مع الجهات المعنية من وزارات وإدارات ونقابات، قامت بها "سكاي للأبحاث والاستشارات" و"المرصد الأورو- متوسطي لحقوق الإنسان".
الجهات المعنية لم تردّ على المراسلات
في حمأة ملاحقة مجموعة العمل المالي – "فاتف"، نقاط الضعف في نظام مكافحة تبييض الأموال في لبنان منذ العام 2022، والتقصي عن الإجراءات التي تتخذها الجهات المعنية لمكافحة هذه الآفة، كان المسؤولون "يغُطُّون" في نوم عميق. ولم يستيقظوا من غفوتهم حتى بعد أن بلغهم قبل أشهر من الإدراج أن "موس" اللائحة الرمادية بلغ "الذقن". وقد عكفت رئاسة مجلس الوزراء منذ كانون الثاني 2024، على مراسلة الجهات المعنية، وعددها 13، والطلب منها تنفيذ إجراءات معينة بحسب تقييم "فاتف" بالسرعة القصوى، مع تحديد الإجراءات الواجب اتخاذها لكل جهة على حدة.
أرسل الكتاب الأول في شباط 2024، إلى وزارات المالية والدفاع والعدل والداخلية والبلديات والاقتصاد وهيئة مراقبة شركات الضمان. وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ومديرية الجمارك، والنيابة العامة التمييزية، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ونقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ، ونقابة خبراء المحاسبة المجازين. لم ترد سوى خمس جهات هي: لجنة مراقبة هيئات الضمان، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، النيابة العامة التمييزية، وزير العدل، ونقابة المحامين في بيروت. وقد أتى ردها "فضفاضاً ويندرج في خانة الفعل المستقبلي، في حين أن مجموعة العمل المالي تطالب بإجراءات آنية"، بحسب مدير المرصد الأورو- متوسطي، محمد المُغَبّط.
في نيسان 2024 أرسلت المديرية العامة في مجلس الوزراء كتاباً تذكيرياً ثانياً للجهات التي لم تردّ على الكتاب الأول، مطالبة إياها بضرورة إجراء المقتضى وبالسرعة القصوى. ولم تردّ أيضاً.
انتهاء المهلة من دون رد
في تموز 2024 أبلغت هيئة التحقيق الخاصة مجلس الوزراء أن المهلة الممنوحة للبنان لاتخاذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة نتيجة تقرير التقييم المتبادل، قد انتهت في منتصف تموز. وطالبت باستمرار حث الجهات المعنية على اتخاذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة تجنباً للتداعيات السلبية الناتجة عن عدم اتخاذها. ولعل المُضحك المُبكي، كان طلب "الهيئة" دعوة الجهات المعنية أخذّ الموضوع على محمل الجد".
بعد كل ما تقدم، وفي ظل تلكؤ كافة الإدارات إما عن الرد أو عن القيام بالإجراءات المطلوبة وتنفيذها بشكل فعّال، أرسل مجلس الوزراء تذكيراً جديداً في 20 آب 2024، بناء على طلب هيئة التحقيق الخاصة. خصوصاً أن "فاتف"، كانت قد طلبت ضرورة تزويدها بمعلومات إضافية وإيضاحات ذات صلة خلال مهلة أقصاها 26 آب 2024، لم تكن قد تلقتها بعد. مؤكدة أن عدم اتخاذ الجهات المعنية الإجراءات التصحيحية سيدفع، حكماً، إلى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. وعلى الرغم من توجيه هذا الكتاب الدقيق والمفصلي إلى 12 جهة، لم ترد إلا خمس جهات في المهلة المحددة، فيما ردّت ثلاث جهات بعد انتهاء المهلة. والجهات التي ردت هي: العدل، المالية، الدفاع، الأمن الداخلي، الاقتصاد، الجمارك، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ولم تتجاوب مع الكتاب أربع جهات هي، وزارة الداخلية، نقابتا المحامين في بيروت وطرابلس، ونقابة المحاسبين المجازين.
لبنان على اللائحة الرمادية
في 25 تشرين الأول 2024 كان "سيف" إدراج لبنان على اللائحة الرمادية قد "سبق عذل"، التقيُّد بالإصلاحات. فتمّ تشكيل لجنة وزارية لمتابعة خطة العمل، وكدليل إضافي على عدم الجدّيّة، لم تجتمع هذه اللجنة إلا بعد شهر. وبعد نحو شهر آخر، أي في 19 كانون الأول 2024، أرسلت كتاباً رابعاً للجهات المعنية، أضيف إليها "لجنة التنسيق الوطنية لمكافحة تبييض الأموال" التي يرأسها المدير العام لقوى الأمن الداخلي، تطلب منها أمرين أساسيين:
- وضع جدول زمني لتنفيذ الإجراءات.
- تعيين شخص محدد من قبل كل جهة للتواصل معه بشكل رسمي.
ولغاية منتصف كانون الثاني الماضي لم تكن أي جهة قد ردت بعد على طلب مجلس الوزراء.
ماذا كان مطلوباً؟
الطلبات من الجهات المعنية بمكافحة تبييض الأموال لم تكن تعجيزية. وعلى سبيل الذكر لا الحصر كان مطلوباً من وزارة العدل مثلا "تحسين السجل التجاري والتحقق من كل المعلومات المتعلقة بصاحب الحق الاقتصادي"، بحسب المُغَبّط، "فاتى رد الوزارة أنها تعمل على تأمين التمويل اللازم لمكننة ورقمنة السجل التجاري". وفي ما يتعلق بتدريب الكتّاب العدول، واتخاذ كل الإجراءات المطلوبة من بعد 2023، يظهر أن آخر تدريب تلقاه هؤلاء على مكافحة تبييض الأموال كان في العام 2018. مع العلم أن مكافحة تبييض الأموال تتطلب تحديث الآليات بشكل دائم.
أما في ما يتعلق بوزارة المالية التي انحصر ردها بعد ثمانية أشهر بالتعليق على تعديل قانون الإجراءات الضريبية وتعريف صاحب الحق الاقتصادي، فأتى مخالفا للدستور"، يقول المُغَبّط. إذ وعدت بتضمين التعديلات المطلوبة في مشروع موازنة 2025". "ما يعني إدراجها من ضمن فرسان الموازنة بمخالفة صريحة للمادة 83 من الدستور، والمادتين 3 و5 من قانون المحاسبة العمومية".
كذلك فعلت مديرية الجمارك التي لم ترد إلا بعد تسعة أشهر على المطالبات، معتبرة أنها اقترحت العمل على المواضيع المطلوبة من خلال تكثيف الجهود مع الجهات القضائية. ويتضح مما تقدم أن ردود الجهات المعنية كان عموميا، فيما أفعالها لم تكن مطمئنة.
اليوم ومع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، وإعطائه مهلة عامين لتطبيق المعايير الأساسية، يجب تغيير كل المقاربة في طريقة العمل. إذ إن عدم التزام لبنان بتوجهات مكافحة تبييض الأموال لا يفي اللائحة الرمادية فحسب، إنما يهدد قطاعه المالي من الانفصال عن النظام المالي العالمي، ويلحق ضررا بالغا بحقوق الإنسان. ومن المهم بحسب "سكاي" و"المرصد الأورو- متوسطي"، تبنّي البيان الوزاري إجراءات صريحة للتعامل مع مطالب مجموعة العمل المالي، وإشراك الجهات المعنية في اللجنة الوزارية المكلفة متابعة العمل، والضغط على الجهات لعدم إهمال تنفيذ الإصلاحات.