تدفع الأزمات المتلاحقة، الطبيعية وغير الطبيعية، التي يمر بها لبنان، إلى السؤال إن كان كل ما تعلمناه في المدارس عن الخصائص الفريدة لهذا البلد المشرقي، مبالغ فيها؛ إن لم نقل غير صحيحة! فـ "قصر المياه"، وهو أحد الألقاب التي أطلقت قديماً على لبنان، يئن من العطش. والمشكلة ليست وليدة يومنا الراهن نتيجة التغير المناخي الذي بدأ يصيبنا بشظاياه، إنما مزمنة. وقد بدأت بوادرها في الظهور في سبعينيات القرن المنصرم مع بدء المواطنين الاعتماد على الصهاريج لتأمين الحاجات. ولعل المقطع الساخر في مسرحية "نزل السرور" التي تعود للعام 1974: "موقفلي صهريج المي كلو قدام بيتي. طيب يوقف نصه قدام بيت الجيران خلي يطلع الصيت علينا وعليون"، خير دليل على قدم المشكلة وتجذرها.

إن كانت أزمة المياه النسبية في حقبتي السبعينيات والثمانينيات والتي بقيت محصورة في المدن سببها الحرب، فان تحولها إلى عامة على صعيد كل الوطن في زمن السلم كان نتيجة سوء التخطيط والادارة.

العودة إلى المركزية

بدلاً من تطبيق شعار اللامركزية الادارية الموسعة لتعزيز التنمية، تم في العام 2000 إلغاء 25 مصلحة مياه، وإنشاء 4 مؤسسات للمياه على صعيد كل لبنان وفقا للقانون 221/2000، وهي: مؤسسة بيروت وجبل لبنان، مؤسسة مياه لبنان الشمالي، مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، ومؤسسة مياه البقاع. الأمر الذي شتت الصلاحيات وخلق بيروقراطية في تنفيذ المعاملات وعزز المركزية وأعاق العمل. إذ يمكن لأي عطل بسيط في قضاء ما، التسبب بمشكلة كبيرة، بانتظار الكشف وأخذ الموافقات والسماح بصرف الأموال. هذا عدا عن كون المناطق قد لا تستفيد من المشاريع بنفس نسبة الجباية التي تؤمنها للمؤسسة المركزية.

تعاني مؤسسات المياه الأربعة المركزية من مسؤوليتها عن مساحات شاسعة، الامر الذي يعيق القيام بدورها او تأمينها للمياه رغم رغنى المحافات الكبير بمصارد المياه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر تم دمج مصلحة مياه جبيل للشفه والري بمرسوم في العام 1996 مع مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان. لتنضم بذلك إلى مصلحة مياه عين الدلبة - مصلحة مياه الباروك، مصلحة مياه المتن، مصلحة مياه كسروان الفتوح. وعلى الرغم من مرور 5 أنهر (نهر الكلب ونهر بيروت ونهر الدامور ونهر الأولي ونهر ابراهيم) في المحافظة الأكبر على صعيد لبنان والتي تبلغ مساحتها 2000 كلم مربع، وضمها سدين، هما: شبروح بسعة 8 ملايين متر مكعب من المياه، وجنة الذي لم يبصر النور بعد. فهي تعاني من انقطاع المياه. ولا يستثني الانقطاع القرى أو المناطق التي تمر بها الأنهر أو تنبع منها كمنطقة كقرية نهر ابراهيم التي تعاني الامرّين من عدوم وصول المياه.

على الرغم من الدور المركزي والكبير الذي أعطي لمصالح المياه، فان دورها بقي مقتصراً على إدارة مصادر المياه فيما وزارة الطاقة هي من تضع استراتيجية المياه. ولم تنأى مؤسسات المياه من التداخل في تنفيذ المشاريع، بينها وبين الصناديق العامة، من مجلس الإنماء والإعمار، وصندوق المهجرين، والمانحين الدوليين، من دون التنسيق مع المؤسسات في الكثير من الأحيان، خصوصاً فيما يتعلق بتنفيذ شبكات المياه ومحطات وشبكات الصرف الصحي التي أخضعت أيضاً لمؤسسات المياه في العام 2005. حيث نفذ مجلس الإنماء والإعمار على سبيل المثال محطة تكرير الباروك في منطقة الصفا، وسلمها لمؤسسة بيروت وجبل لبنان بعد الإنتهاء منها من دون أخذ رأيها أو حتى موافقتها. واستفادت بعض القرى مثل بحمدون وبزبدين من تنفيذ 3 شبكات للمياه، فيما هناك بلديات كشارون تعاني من شبكه مهترئة تعود للعام 1950.

الاعتماد على السدود لم يكن خياراً موفقاً

اعتمدت كل الخطط الوطنية لإدارة قطاع المياه على إنشاء السدود السطحية، (الاستراتجية الوطنية لقطاع المياه 2010) وبكلفة كبيرة جداً، فاقت بأضعاف الكلفة المقدرة بالدراسات مع تطلبيها الكثير من الوقت، وعدم نجاحها في تجميع المياه. خصوصا في سنوات الجفاف. فسد شبروح الذي يغذي كسروان والمتن فارغ. فيما سد جنة الاضخم على صعيد لبنان الذي بدأ انشاؤة في العام 2013 وبفترة 4 سنوات كحد أقصى، لم ينتهي العمل به بعد، وقد ارتفعت كلفته إلى حوالي مليار دولار، من دون أن يتم إنجاز دراسة الأثر البيئي.

سحب المياه من معامل الطاقة لصالح الشفة والري

من الأخطاء البنيوية التي فاقمت أزمة المياه كان تقليص إمداد المعامل الكهرومائية من المياه لصالح تغذية مؤسسات المياه. فجرى منذ العام 2001 تحويل قسم من مياه نبع الصفا التي كانت تغذي معمل رشيما لانتاج الكهرباء إلى مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان. فتوقف المعمل عن إنتاج الكهرباء لفترة تصل إلى سبعة أشهر في العام بالحد الأدنى. وكان التبرير آنذاك انتفاء الحاجة إلى المعامل الكهرومائية نظراً للتوسع أنذاك في بناء المعامل الحرارية المركزية. فكانت النتيجة عدم كفاية المياه للشرب والري، وفقدان محطات الضخ للكهرباء، نتيجة فشل المعامل الحرارية، واضطرار مؤسسات المياه الاعتماد على المولدات الخاصة غير المستدامة وذات الكلفة الباهظة.

الكلفة الاقتصادية

إزاء هذا الواقع ارتفعت كلفة تأمين المياه على عائلة مؤلفة من أربعة افراد إلى 60 مليون ليرة (670 دولار) أقله، تعادل حوالي 3 أضعاف ونصف الضعف الحد الأدنى للأجور البالغ 200 دولار. بعبارة اخرى يجب على العامل محدود الدخل تخصيص ثلاثة رواتب ونصف، من دخله السنوي، لتأمين المياه فقط. وبالأرقام تحتاج العائلة أسبوعياً في المتوسط إلى شراء 5 براميل بكلفة لا تقل عن 400 ألف ليرة، وإلى حولى 300 ألف ليرة لشراء مياه الشفة. ما يعني دفع حوالي 3 ملايين و500 ألف ليرة شهرياً لتأمين مصادر مياه بديله عن المياه العامة. وهذه الأرقام قد ترتفع بنسب أكثر بكثير تبعاً لكمية وصول المياه وحجم الاستعمال في الصيف. وتتحضر مؤسسات المياه إلى إطلاق مفاجأة من العيار الثقيل بتحويل رسم اشتراك المياه من سنوي إلى شهري، وربطها بتغير أسعار المحروقات وكلفة المولدات وارتفاع مؤشر الاستهلاك، من دون أن يعني ذلك تحسين بنوعية وجودة الخدمة التي تقدمها. حيث تنقطع المياه لحوالي نصف سنة في الكثير من المناطق.

لبنان غني بالمياه، ولكن

على الرغم من الأزمة المناخية العالمية وشح الأمطار وتراجع المتساقطات هذا العام بنحو 70 في المئة عن العام 2024، يبقى لبنان واحد من أغنى البلدان في المياه، سواء كانت سطحية من الأنهار والينابيع، أو جوفية من الآبار. ويمكن بسهول الاستدلال على حجم ثروة المياه من خلال تقرير "المصلحة الوطنية لنهر الليطاني" حول الواقع المائي في لبنان على ضوء المياه المتاحة والمستخدمة. إذ يتبين أن حجم المياه المتجددة التي يمكن استثمارها يبلغ 3,258,000,000 م3، بينما يبلغ حجم الحاجات الى المياه حوالي 1,935,000,000 م3 فقط (عام 2020). إلا أن غياب عمليات المحافظة على نوعية المياه أو تطوير الموارد المائية من خلال المشاريع المبرمجة لهذه الغاية، أدى الى انخفاض كبير في حجم المياه التي يمكن استعمالها، فعلياً إلى 700,000,000 م3 فقط. وعلى الرغم من ان حجم المياه المتاحة ستزيد مع السنوات القادمة من 700,000 م3 في عام 2020 الى 775,000,000 م3 في عام 2025، ومن ثم الى 840,000,000 م3 في عام 2030، إلا ان الحاجة الى المياه ستتصاعد بوتيرة أعلى من ذلك، مما سيرفع أكثر من حجم العجز.

بتلخيص للأرقام يتبين بحسب "المصلحة" أن حجم المياه المتاحة هو أكبر من حجم المياه القابلة للاستعمال. اذ تتطلّب الأخيرة توافر اعتبارات النوعية، بالإضافة الى توافر استثمارات كبيرة وصحيحة للإنشاءات التي يفترض القيام بها. فكمية المياه المستخدمة حالياً لا تتجاوز 21 في المئة من المياه المتاحة في ظل التلوث وعدم الاستثمار. ويشدد التقرير على أن "توافر المياه كماً ونوعاً لا يقتصر على العوامل الطبيعية، والقدرة الاستثمارية، بل انه يتطلّب الادارة الرشيدة للقطاع بما تتضمنه من القيام بعمليّات قياس دقيقة ومراقبة مستمرّة، خاصة لدرء اخطار التلوّث، وبناء قاعدة معلومات متطوّرة وتدريب مستمرّ للعنصر البشري".

المطلوب اليوم اكثر من أي وقت مضى تنفيذ المشاريع التي تضمن وصول المياه بكفاءة وجودة عاليتان وبأسعار مقبولة. فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف؟ ولماذا تتغاضى السلطة السياسية عن تطبيق القانون 192/ 2020، وتتجاهل إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع المياه؟ وما الدور الذي يجب ان يلعبه القطاع الخاص في تأمين المياه؟ أسئلة سنجيب عليها في المقال القادم بمقابلة حصرية مع رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية.