يعيش لبنان في الفترة الحالية طقسًا غير مسبوق، إذ تسجّل درجات الحرارة معدّلات أعلى من المستويات الموسمية، ويترافق ذلك مع غياب شبه كامل للأمطار والعواصف الشتوية التي تُعتبر شريان الحياة للنظام البيئي والزراعي في البلاد. هذه الظاهرة، التي تعكس آثار التغير المناخي العالمي، تشكل تهديدًا خطيرًا للثروة المائية والزراعة، مما ينذر بأزمة متعددة الجوانب قد تضر بالبيئة والاقتصاد والصحة العامة.

التغير المناخي: الأسباب والتداعيات

في هذا الإطار يعزو الخبير البيئي د. وفيق نصير، في حيدثه لموقع "الصفا نيوز" هذه التغيرات المناخية إلى عوامل محلية وعالمية، أبرزها "ارتفاع تركيز الغازات الدفيئة الناتج عن النشاط البشري مثل التلوث الصناعي وقطع الأشجار". وبضيف أنّ "الأنماط المناخية العالمية المتقلبة تسهم في زيادة تكرار موجات الجفاف والحر، مما يزيد من التحديات البيئية في لبنان".

ويشرح أنّ "ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى زيادة معدل تبخر المياه من الأنهار والينابيع، مما قلل من الموارد المائية المتاحة وأثر سلبًا على القطاع الزراعي. كما أن التراجع الكبير في معدلات الأمطار أدى إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية، وهذا يهدد بنضوب إمدادات المياه المستخدمة للشرب والزراعة".

انعكاسات خطيرة على البيئة والمجتمع

ولارتفاع درجات الحرارة انعكاساتها الخطيرة على البيئة والمجتمع على حد سواء نذكر منها:

• البيئة والتنوع البيولوجي: استمرار ارتفاع درجات الحرارة قد يؤدي إلى انقراض بعض الأنواع النباتية والحيوانية التي لا تستطيع التكيف مع هذه الظروف المتغيرة. كما قد تهاجر أنواع الطيور التي كانت تعتمد على مناخ لبنان المعتدل، مما يؤدي إلى اختلال في التوازن البيئي.

• الزراعة والمياه: يمثل القطاع الزراعي الضحية الأبرز لهذه الأزمة لأنه يعاني من شح المياه اللازمة لري المحاصيل، وهذا يهدد الإنتاج الزراعي ومعيشة آلاف اللبنانيين الذين يعتمدون عليه.

• الصحة العامة: تزايد درجات الحرارة يزيد من خطر الإصابة بأمراض الإجهاد الحراري وضربات الشمس، خصوصًا بين الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال وكبار السن.

• النزاعات الاجتماعية: ندرة المياه قد تؤدي إلى نزاعات محلية بين المجتمعات، خاصة في المناطق الريفية التي تعتمد على مصادر المياه الجوفية.

التأثير الاقتصادي

وإلى جانب الآثار البيئية هناك أيضا آثار اقتصادية. يقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمود عقيقي في حديثه لموقع "الصفا نيوز" إن "أزمة المناخ وارتفاع درجات الحرارة في لبنان قد تتحول إلى كارثة اقتصادية إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة. قطاع الزراعة، الذي يشكل أساس سبل العيش للعديد من العائلات الريفية، يتعرض لضغوط كبيرة بسبب شح المياه. كما أن انخفاض الإنتاج الزراعي سيرفع من أسعار المواد الغذائية ويزيد من معدلات التضخم، مما يزيد من معاناة المواطنين. لذلك، يجب أن يكون الاستثمار في إدارة المياه والتكنولوجيا الزراعية المستدامة أولوية قصوى للحكومة".

وإلى ذلك اقترح كل من الخبيرين عدّة إرشادات للمواطنين لمواجهة الأزمة. ففي ظل التحديات المتزايدة، يمكن للمواطنين لعب دور فعال في تقليل تأثير أزمة المياه وارتفاع الحرارة من خلال اتباع التعليمات التالية:

1. ترشيد استخدام المياه، كإصلاح أي تسربات في أنابيب المياه المنزلية، وتقليل استهلاك المياه أثناء الاستحمام أو غسل الأطباق، واستخدام أنظمة ري حديثة لتوفير المياه في الحدائق والمزارع.

2. إعادة تدوير المياه، كإعادة استخدام المياه الناتجة عن غسل الخضروات أو الفواكه لري النباتات، وجمع مياه الأمطار عند توفرها وتخزينها للاستخدامات المستقبلية.

3. تجنب هدر الموارد الطبيعية كتقليل استخدام أجهزة التكييف عند عدم الحاجة، والتحول إلى مصابيح موفرة للطاقة للحد من الانبعاثات الحرارية.

4. تعزيز الوعي البيئي كتعليم الأطفال أهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية، والانخراط في المبادرات البيئية المحلية مثل حملات التشجير وتنظيف الشواطئ.

كذلك، تعد إعادة التشجير من أبرز الحلول المستدامة التي يمكن أن تسهم في مواجهة التغيّر المناخي. تساعد الأشجار في تقليل تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وتحسين جودة الهواء، وتعزيز التنوع البيولوجي. كما تسهم الغابات في تقليل التعرية وحماية التربة، مما يدعم الزراعة ويساعد على استقرار الموارد المائية. وهذه الخطوة يمكن أن تقوم بها الجمعيات البيئية في لبنان

علاوة على كل ذلك، للجمعيات والمواطنين دور في مكافحة ارتفاع درجات الحرارة كما للدولة دور رئيسي في هذا الإطار. فارتفاع درجات الحرارة في لبنان ليس مجرد ظاهرة مؤقتة، بل مؤشر على تغيرات مناخية عميقة تتطلب استجابات فعالة. يمكن للحكومة بالتعاون مع المؤسسات الدولية والقطاع الخاص تبنّي استراتيجيات مستدامة تشمل تحسين إدارة الموارد المائية وتعزيز الوعي البيئي لدى الأفراد والمجتمعات، إلى جانب الاستثمار في الطاقة المتجددة للحد من الانبعاثات الكربونية.

رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها لبنان بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتراجع الموارد المائية، يبقى الأمل قائمًا من خلال العمل المشترك لتبنّي حلول مبتكرة ومستدامة. فالاستثمار في مستقبل بيئي أفضل لا يقتصر على حماية البيئة فحسب، بل يضمن أيضًا استقرارًا اجتماعيًا واقتصاديًا للأجيال القادمة.