التغير المناخي الذي يتنّقل حول العالم منذ سنوات "زارعاً" فيضانات في بعض الأماكن و"حاصداً" الجفاف في البعض الآخر، "حط" هذا العام في لبنان. "مربعانية الشتاء" الممتدة من أواخر كانون الاول ولغاية نهاية كانون الثاني، والتي قيل فيها الكثير عن غزارة متساقطاتها، أتت هذا العام "ناشفة". فلبنان "يشهد هذا العام أحد أكثر المواسم جفافاً في السنوات الأخيرة"، بحسب تصريح لرئيس قسم التقديرات في مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت الدولي، محمد كنج، إذ "لم تتجاوز نسبة المتساقطات 20 إلى 30 في المئة من المعدلات العامة للأمطار حتى الآن". وهو الامر الذي طرح أسئلة عن مصير القطاع الزراعي، وكيفية انعكاسه على المزراعين، المرهقين اساساً بارتفاع الاكلاف الانتاجية وصعوبة التسويق.
صحيح أن القطاع الزراعي صغير ومساهمته في الناتج المحلي محدودة، لكنْ قلّما يوجد بيت في الأرياف والسهول البقاعية الشمالية والجنوبية لا يملك قطعة أرض تؤمن له مدخولاً ثانوياً من الزيت والزيتون، وبعض أنواع البقوليات والخضار والفواكه، أو توفّر عليه بأقل الإيمان كلفة شرائها. وهذه الفئة ستصاب هذا العام بانتكاسة متوقعة. أما على صعيد المزارعين المحترفين، فحدّث ولا حرج عن خسائر، بدأوا "يتحسّسونها"، ويستعدّون لكيفية تعويضها، خصوصاً لو استمر انحباس الامطار، أو لم يبلغ المستويات المطلوبة.
كارثة حقيقية تتظر المزارعين
يفيد المزارع جورج حنا فخري، ممثل التعاونيات الزراعية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بأن "استمرار انحباس الامطار سيمني المزارعين عموماً، ومزارعي القمح خصوصاً بكارثة حقيقية". وفي جولة ميدانية لفخري مع وفد من منظمة "اكساد" التي سبق أن تعاونت مع وزارة الزراعة لتوزيع القمح الطري على المزارعين بقاعاً وشمالاً، تبيَّن أن "نسبة الإنبات في حقول القمح ضعيفة نسبياً، والشتول التي نبتت تحوّل لونها إلى الاسود وبدأت تذبل".
تنتشر حقول القمح الكبيرة في سهل البقاع في المنطقة الممتدة بين رياق، وشعت، ورأس بعلبك، والكنيسة، وإيعات ودير الاحمر. ولم تتلقَّ هذه المنطقة المسمّاة "صحراوية" نظراً لجفافها، إلا كمية قليلة جداً الامطار هذا العام تراوحت بين 25 إلى 30 ملم، ولم تخرق المتساقطات إلا حوالي 15 سنتم تحت سطح التربة"، بحسب فخري، "ما يعني أن كل الحبوب تحت هذا المستوى لم تصلها المياه ولم تنبت". الأمر الذي يحتّم على المزارعين الانتقال إلى الري الاصطناعي، وتحمّل كلفة إضافية تقدر بحسب فخري بين 30 و 40 دولاراً للدُنُم الواحد، تضاف إلى مجمل الكلفة المقدَّرة بنحو 90 دولاراً. فترتفع كلفة زارعة دنم القمح الواحد إلى ما بين 130 و 140 دولارا، نظراً لاضطرار المزارعين إلى شراء أو استئجار بخاخات رش المياه وتركيبها، وشراء المازوت لضخ المياه سواء كان من البرك السطحية أو المياه الجوفية ثلاث أو أربع مرات في الموسم. و"كلها أكلاف إضافية يعجز المزاعون عن تحملها"، بحسب فخري،" الذي يقول إن ّسعر مبيع طن القمح تراجع مؤخراً إلى حدود 300 دولار، في سوق الجملة. ويضيف أن المزارعين فقدوا الأمل بإمكانية بيع المحصول لوزارة الاقتصاد بسعر تشجيعي أو مدعوم. فعادة، يقتصر عرض الوزارة، عاماً بعد أخر، على نشر الاعلانات المترافقة مع طلب الكثير من البيانات والمستندات من دون أن تتم عملية الشراء. الامر الذي أفقد المزارعين الثقة بامكانية بيع الانتاج للوزارة، واضطرّهم للبحث عن مشترين من السوق ولو بأسعار قليلة".
طريقة جديدة للتعامل مع المتغيرات الطبيعية
الجفاف الذي أصاب لبنان في شهر "فحل" الشتاء، كان قد سبقه في تشرين الأوّل الماضي موجة صقيع أدت إلى تلف مساحات واسعة من البطاطا اللقيسي. هذه التقلبات في الطقس التي كانت تمر بشكل عرضي، وبفترات زمنية متباعدة نسبيا في العقود الماضية، يُتوقَّع ان تزداد مستقبلا مع تعمق التغيّر المناخي على الصعيد العالمي. وهو الامر الذي يتطلب محليا مقاربات جديدة على المستويَين العام والخاص، تقوم على "التأقلم"، برأي المستشار التنموي الزارعي د. الياس الغضبان الذي يوصي بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي للتنبه من المتغيّرات. وإذا كانت الوزارات المعنية من زراعة وبيئة تأخذ التغير المناخي في الاعتبار في استراتيجياتها العامة، فان على "المزارعين اعتماد اساليب جديدة في حماية منتجاتهم من التغيّر المناخي" يضيف الغضبان. "ذلك انه من الصعب وغيرالمنطقي تغيير طبيعة المزروعات المتناسبة تاريخياً مع طبيعة الارض والمرتفعات وأساليب المزارعين، وثقافتهم، والطلب العام من الاسواق. ومن الافضل تغيير الأنماط الزراعية"، كأن يأخذ المزارعون في الحسبان ضرورة ري حقول القمح والشعير في مناطق البقاع في فترات الجفاف، وأن يعمد مزارعو اللوزيات إلى تغطية اشجارهم حماية لها من هطول البَرَد في الربيع، بعد ان تكون قد أزهرت باكراً بسبب الجفاف في أوائل الشتاء". يساعد المزارعين على ذلك، إعادة تخزين الطبقات الجوفية، التي تشكّل المصدر الأساسي لمعظم عمليات الري التكميلي، كميات كافية من المياه المجمّعة من هطول الامطار على مدار اشهر العام، وانخفاض نسبة التبخر نتيجة انخفاض درجات الحرارة، خصوصاً ليلاً. وهذه التادبير تحمي المزروعات وتخفف الكوارث على المزراعين. وبحسب الغضبان فان "مزراعي البقاع، ولاسيما منهم مزارعو القمح، حاضرون أساساً لعمليات الري التكميلي ثلاث أو أربع مرات في الموسم، للوصل إلى ما بين 600 و700 كيلو قمح بالدنم الواحد حتى في سنوات وفرة الامطار". أمّا في حال الاعتماد على الشتاء فقط بدون الري التكميلي، فقد لا يتجاوز محصول الدنم الواحد أكثر من 400 كيلو.
تشدد كل الاستراتيجيات العالمية والمحلية في مواجهة التغير المناخي على التخفيف من التداعيات والتأقلم. وفي ظل انعدام امكانيات الدولة للتعويض عن الأضرار ومساعدة المزاعين ودعم أكلاف الانتاج، فان المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المزارعين الذين عليهم وضع تأمين على مزروعاتهم، يعوّض عليهم الاضرار في حال حدوثها، واعتماد الاساليب الزراعية الحديثة من ري وتدفئة وتغطية الشتول. ومن المهم جداً تطوير وتنمية الجمعيات التعاونية للتخفيف من الاكلاف الانتاجية.