كالمحاماة تحديداً، رسالة، هدفها حماية الحقوق وتحقيق العدالة. ولم تكن هذه المهنة التي مارسها الفلاسفة نظراً لما تمتعوا به من حكمة ودراية، مادية؛ ليس لكون "المال يفسد المآل، ويوسع الآمال" على حد القول الشريف، إنما لإمكانية إعاقته التوكل عن بسطاء الحال، ممن لا يملكون القدرة على تسديد الأتعاب. ومن البديهي أنه كلما خُفّضت الأعباء والرسوم عن كاهل المحامين، كلما ابتعدوا عن الانتقائية بقبول موكليهم، ووسعوا "بيكار" مدافعتهم عن القضايا المحقة، مهما كان مردودها منخفضاً.
خلافا لهذه المبادئ العامة، عمدت نقابة المحامين في بيروت إلى وضع جدول بالرسوم، التي بدأ تطبيقها منذ الأول من كانون الثاني 2025. تضمنت الرسوم زيادة كبيرة بأكلاف مختلف المعاملات، بدءاً برسم الانتساب كمتدرج بقيمة 1500 دولار، مروراً بالقيد في الجدول العام مباشرة بقيمة 15 ألف دولار، وصولاً إلى رسم تصوير مستندات من ملف (نسخة واحدة) بقيمة 10 دولار. ولم تنس النقابة إضافة المساهمة في بناء النادي بقيمة 400 دولار. وتضمنت المادة الثانية من التعميم، حفظ حق طالبي الانتساب إلى جدول المحامين المتدرجين، وطالبي الانتقال إلى الجدول العام الذين نجحوا في الاختبارين الشفي والخطي بتطبيق رسوم الانتساب ونقل القيد المقررة بتاريخ 26 نيسان 2024، ولغاية تاريخ نهاية كانون الثاني 2025.
المحاماة للميسورين ماديا
الإجراء الذي يبدو تنظيميا بحتاً، ويهدف إلى رفد صندوق النقابة بمبالغ وافرة للمساهمة في تحسين التقديمات الصحية والاجتماعية وتعويضات نهاية الخدمة، سيحصر مهنة المحاماة بأبناء الطبقة الميسورة. فهو يفترض بالمتخرج من كلية الحقوق، الراغب في ممارسة المحاماة أن يخضع لامتحان، ومن ثم أن يتسجل على اسم محام في الجدول العام، والتدرج لمدة ثلاث سنوات في مكتب محاماة، من دون أي مقابل، قبل الخضوع لامتحان ثانٍ للنقابة. وعليه أصبح الانتساب إلى نقابة المحامين يكلف نحو 5000 دولار. وإن رغب المحامي بعد فترة التدرج الانتقال إلى الاستئناف سيتكلف رسوما ومصاريف بحوالي 17 ألف دولار بين تسجيل مكتب وتسديد رسم الانتقال على الجدول العام. وذلك بعد أن يكون عمل ثلاث سنوات بالمجان في مكتب التدرج.
مجانية التقاضي
تسأل أوساط معنية "أي طالب متخرج من كلية الحقوق، ولاسيما التابعة للجامعة اللبنانية، قادر هو وذووه على تسديد هذه المبالغ لينتقل إلى سوق العمل الفعلي؟ وهل سيرضى بعد ذلك أن يصبح محامياً يتقاضي أتعابا رمزية أو قليلة؟" وتجيب أن "القرار لن ينعكس على حصر مهنة المحاماة بخريجي الجامعات الخاصة من أبناء الطبقة الميسورة فقط، إنما يتعارض أيضاً مع مبدأ مجانية التقاضي، ويضع الكثير من الضغوط المالية على المتقاضين، وقد يدفعهم إلى الإحجام عن تكليف المحامين والعمل على أخذ حقهم بيدهم، فتسود شريعة الغاب".
أما من الناحية الاقتصادية فإن "رفع الرسوم على المحامين سينعكس ارتفاعاً كبيراً في أكلاف الشركات والمؤسسات الملزمة بتوكيل محام أو مكتب محاماة، وستعود وتعكس هذه الكلفة في أسعارها، الامر الذي يحدّ قدرتها على التنافس ويزيد أسعار بضائعها ويرفع التكلفة على المستخدم النهائي". فتكلفة تسجيل وكالة للشركة وتحصيل محضر ارتفعت من 100 إلى 200 دولار. وفي النهاية يتحمّل المواطن كلفة هذه الرسوم بشكل أو بآخر.
الرسوم القضائية لا تقل كلفة أيضاً
لعل أكثر ما يثير تساؤلات المصادر المعنية، هو الهدف من هذه الرسوم، التي تأتي بالتوازي مع ارتفاع رسوم المحاكم والقصور العدلية، خصوصاً أنها لا تنعكس في التقديمات الاجتماعية. فلم ينل المحامون المنتسبون إلى النقابة أي مساعدة مباشرة أو غير مباشرة في أيام الحرب الطويلة. ولم يتم التعويض عن الأضرار المادية التي لحقت بهم، أو مساعدتهم في تحمل أكلاف النزوح.
إضافة إلى رفع قيمة الرسوم ودولرتها، ألغت النقابة من قاموسها الخدمات المجانية التي لطالما حصل عليها المحامون من دون أي مقابل، ووضعت عليها تعريفات جديدة، وذلك على غرار، طلب إفادة من النقابة عند التقدم لنيل تأشيرة دخول إلى بلد آخر بقيمة 10 دولار، والطلب أو الاستدعاء من مجلس النقابة أو النقيب بطريقة رسمية بقيمة 10 دولار. وعادت لتحدّد رسم تسجيل الوكالة بـ 30 دولاراً، تشكل أحيانا كثيرة نصف الراتب الرسمي لموظّف أو متقاعد. وعلى الرغم من كون هذه المبالغ تبدو قليلة، إلا أنها تقدم إلى مجلس النقابة بالاف شهريا وتكلف المحامين مبالغ كبيرة كانوا بغنى عنها.
"مثلث برمودا"
الأمور لا تقف عند هذا الحد بل يستشعر المحامون، باتفاق ضمني غير معلن بين النقابة وصندوق تعاضد القضاة والمساعدين القضائين، بما يشبه "مثلث برمودا"، "يبتلعهم" مع الموكلين. فبعد ما كان موقف السيارات في العدلية متاحاً لعشرات السنوات أمام المحامين مجاناً، وضع صندوق تعاضد القضاة يده عليه وفرض تسديد 50 ألف ليرة رسما للدخول على كل محام. وأنشأ على الملك العام في زاوية الموقف مطعماً تعود مداخيله للصندوق. "وعلى الرغم من أن المبلغ زهيد فهو غير مبرر"، بحسب المصادر. ورفع صندوق التعاضد أيضاً قيمة الطابع المالي في الحرب على كل دعوى من الف ليرة (0.6 دولار) قبل الانهيار، إلى 100 الف ليرة ( 1.1 دولار) وأصبحت المعاملة تتطلب طابعين، يطبعان ولا يلصقان، نظرا لعدم توفر الطوابع.
هذا ويلزم المحامون بتسديد مبلغ 800 دولار لصندوق تعاضد القضاة كبدل عن إنشاء منصة إلكترونية غير إلزامية لتسجيل الدعاوى عن بعد online، وفي حين كان من المفترض ان يذهب هذا الرسم للمالية العامة يتقاضاه الصندوق. وأقل الايمان أن تستفيد منه نقابة المحامين، خصوصاً أن قيمة ما يتقاضاه القضاة من رواتب وتقديمات لم تنخفض إلا بنسبة قليلة مقارنة بباقي الموظفين العامين في الدولة اللبنانية.
التعويل على أن تحسن الاوضاع المعيشية وارتفاع مداخيل اللبنانيين بعد دولرتها بشكل كلي أو جزئي قد يخفف من أعباء الرسوم، لن يحمي مهنة المحاماة بان تصبح حكراً على "أولاد الذوات". فأكلاف الدخول إلى النقابة بعد ثلاث سنوات من العمل المجاني تفوق قدرة معظم الطلاب الذين يتخرجون من الجامعة الوطنية. وإن كان الهدف الخفي من رفع التكاليف الحدّ من دخول المزيد من المحامين إلى القطاع، فيجب على الإدارات المعنية من نقابة المحامين، ووزارة التربية، والجامعة اللبنانية.. التنسيق بينها لوقف استقبال الاعداد الهائلة من المنتسبين سنوياً إلى هذا الاختصاص الذي لا يتطلب امتحانا للدخول، رأفة بالشباب والحدّ من رفد السوق بالمزيد من العاطلين عن العمل.