هل سبق لك أن دخلت مكانًا للمرة الأولى وشعرت بأنك كنت هناك من قبل؟ أو تحدثت إلى شخص غريب وشعرت بأنك تعرفه منذ زمن. هو الـ"تخيُّل" أي أن عقلك يسبقك بخطوة، يجعلك تعيش لحظة تبدو مألوفة رغم أنك تختبرها للمرة الأولى. هذا الشعور المحيّر، حيث تتداخل الذاكرة مع الواقع في مشهد مُبهم، يُعرف بوهم سبق الرؤية أو "ديجافو".
هل هو خلل في الدماغ، أم لمحة خاطفة من ذاكرة منسية؟ بين التفسيرات العلمية والتكهنات الفلسفية، يبقى السؤال مطروحًا: كيف يمكن للعقل أن يستحضر ما لم يحدث بعد؟
لُغز حيّر العلماء والمفكرين
قد يبدو الأمر كأن عقلك يسبقك بخطوة، يتذكر لحظات لم تعشها بعد! في القرن التاسع عشر، أطلق الباحث النفسي الفرنسي إميل بواراك هذا المصطلح (Dèjà vu) لوصف تلك اللحظات الغامضة. لكن البشر عرفوا هذا الإحساس منذ قرون، وفسروه وفق معتقداتهم: فمؤسس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد اعتبره انعكاسًا لرغبات مكبوتة، فيما ربطه مؤسس علم النفس التحليلي، السويسري كارل يونغ باللاوعي الجماعي. أما أفلاطون فكان أكثر شاعرية، إذ رآه دليلاً على حياة سابقة.
من الغموض إلى العلم
ظل الـ"ديجافو" لغزًا حتى قرر العلماء أخيرًا دراسته بجدية. ففي عام 2003، جمع الباحث "ألان براون" البيانات المتاحة حول الظاهرة، رابطًا إياها بعلم النفس المعرفي والذاكرة. لكن كيف يمكن دراسة شيء لا يدوم سوى بضع ثوانٍ؟
وفي عام 2006، تدخلت التكنولوجيا، اذ استخدمت الباحثة "آن كليري" الواقع الافتراضي لاستثارة الشعور بوهم سبق الرؤية، عبر عرض مشاهد متشابهة مكانيًا. فوجدت أن الدماغ يمكن أن "يخدع نفسه"، إذ يربط الأماكن الجديدة بتجارب سابقة بناءً على التشابه المكاني.
فهل دماغك يتلاعب بك؟
هناك عدة نظريات تحاول تفسير الـ"ديجافو":
-الذاكرة المخفية: يُشير بعض الفرضيات إلى أن الدماغ قد يكون تعرّض لموقف أو مشهد مشابه في الماضي، لكنه لا يستدعيه بوضوح عند مواجهة تجربة مماثلة، فيخلق شعورًا بالألفة من دون وعي إدراكي كامل.
-خلل في التسلسل الفكري: يمكن أن يحدث الـ"ديجافو" نتيجة لمعالجة غير مكتملة للمعلومات، فيلتقط الدماغ مشهدًا أو تفصيلًا بسرعة قبل أن يتشتّت انتباهه، وعند مواجهته مجدّدًا، ينشأ الإحساس بأنه قد شوهد من قبل.
-اضطراب كهربائي في الدماغ: يعتقد بعض الباحثين أنّ هذه الظاهرة قد تكون مرتبطة بنشاط كهربائي غير منتظم في الدماغ، يشبه النوبات الصرعية الصغيرة. وقد يفسر ذلك سبب انتشارها بشكل أكبر بين الشباب مقارنة بكبار السن، نظرًا للنشاط العصبي الأكثر حيويّة في تلك المرحلة العمرية.
لا يزال وهم سبق الرؤية أحد أكثر الألغاز المحيّرة في العلوم الإدراكية. وبينما لم يتمكن العلماء بعد من الوصول إلى تفسير نهائي، فإن الأبحاث المستمرة حوله تكشف لنا يومًا بعد يوم أسرارًا جديدة عن طريقة عمل الدماغ والذاكرة.
ربما يكون الـ"ديجا فو" أكثر من مجرد لحظة عابرة من الغموض، وربما يحمل في طيّاته مفتاحًا لفهم أعمق لكيفية إدراكنا للزمن والواقع. حتى ذلك الحين، سيظل هذا الشعور الغامض يذكّرنا بأن عقولنا لا تزال تخفي أسرارًا لم نكتشفها بعد.