في خِضمّ الحديث عن الإصلاحات، يعود إلى الواجهة ملفّ تحرير سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي، الذي سيكون من مطالب صندوق النقد الدولي. وإذا كان خيار تحرير سعر صرف العملة هو الخيار المُفضّل لدى القتصاديين نظرًا لقدرته على تصحيح الخلل في الماكينة الاقتصادية، فإنه ليس الأفضل دائمًا، خصوصًا أن المواطن هو من يدفع الثمن.
بعبارة بسيطة، ميزان المدفوعات هو مقياس لحركة دخول العملة الصعبة إلى لبنان وبالتحديد إلى احتياطات المصرف المركزي. فإذا كان إيجابيًا، فهو يعني أن العملة الصعبة تدخل البلد وتسجَّل بالقيمة نفسها زيادةً في إحتياطات المصرف المركزي. وإذا كان سلبيًا فهذا يعني هناك العملة الصعبة تخرج من البلد وتخرج بالقيمة نفسها من احتياطات المركزي. تقنيًا، ميزان المدفوعات هو بيان مالي يلخص المعاملات الاقتصادية للبلد المعني مع الخارج في فترة معينة عادةً ما تكون سنة. ويشمل هذا البيان جميع المعاملات التجارية والمالية بين المقيمين في البلد وغير المقيمين (البضائع والخدمات والأصول المالية...).
مكوّنات ميزان المدفوعات
وينقسم ميزان المدفوعات إلى ثلاثة مكونات رئيسية:
الأول هو الحساب الجاري الذي يسجِّل التجارة في السلع والخدمات، والدخل من الاستثمارات والعمل، والتحويلات الجارية (الصادرات والواردات من السلع، والصادرات والواردات من الخدمات، والأرباح من الاستثمارات والعمل في الخارج، والمساعدات الخارجية، والتحويلات المالية).
الثاني هو الحساب الرأسمالي الذي يسجّل تحويل الأصول الرأسمالية والأصول غير المنتجة وغير المالية. ويشمل معاملات مثل إعفاء الديون، تحويل الأصول من المهاجرين، وبيع وشراء الأصول غير المُنْتَجَة مثل براءات الإختراع.
أما الثالث فهو الحساب المالي الذي يسجّل تدفقات الاستثمار، بما فيها الاستثمار المباشر (الاستثمارات في الأصول المادية مثل المصانع أو العقارات)، الاستثمار في المحافظ المالية (الاستثمارات في الأصول المالية مثل الأسهم والسندات)، والاستثمارات الأخرى (القروض والودائع بالعملات والمعاملات المالية الأخرى).
إن تأثير عجز ميزان المدفوعات يعتمد جزئيًا على سببه! فإذا كان بسبب قروض أو إستثمارات في الخارج، فقد يعني ذلك أن البلد يزيد ثروته في الخارج وبالتالي يقوّي حسابه الجاري في المستقبل من خلال تدفّق الفوائد والأرباح الناتجة. من ناحية أخرى، يعني العجز في الحساب الجاري أن الأمة تنفق أكثر مما تجني.
فَهْمُ ميزان المدفوعات أمر بالغ الأهمية لتقييم الصحة الاقتصادية للبلد، وتعديل السياسات الحكومية، وإتخاذ القرارات التجارية الخارجية. وتقتضي النظرية الإقتصادية أن يكون ميزان المدفوعات متوازناً أي أن مجموع الحساب الجاري والحساب الرأسمالي والحساب المالي يساوي صفرًا عند حساب الفروقات الإحصائية. وبالتالي إذا استورد بلد ما أكثر ممّا يصدّر، فسيكون لديه عجز في الحساب الجاري، بما يوجب تمويله بالاقتراض أو بيع الأصول، وينعكس ذلك في الحساب المالي.
وبحسب البيانات التاريخية، فإن عجز ميزان المدفوعات يعني أن البلد يستورد أكثر ممّا يصدّر، أي أن الموارد التي تخرج من البلد أكثر من تلك التي تدخل إليه في الفترة قيد النظر، واستطرادًا ليس بمؤشّر إيجابي لاقتصاد البلد. هكذا بمجرد حدوث عجز في ميزان المدفوعات، يتوجّب على الحكومة اتخاذ إجراءات سريعة لتصحيح العجز.
أسباب العجز
أسباب عجز ميزان المدفوعات تدور حول ستة عوامل:
الأول هو فقدان أسواق التصدير كما حصل مع لبنان في العقد الماضي وهو ما يؤثر سلبًا على ميزان المدفوعات.
الثاني الزيادة في الواردات وهو ما يؤدّي إلى عجز في ميزان المدفوعات كما هو حال لبنان منذ ستينييات القرن الماضي مع إزدياد مُطّرد زمن الأزمة السورية.
الثالث هو سعر صرف عملة مبالغ في قيمته يؤدّي إلى التحفيز على الاستيراد وبالتالي إلى عجز في ميزان المدفوعات، وهو بالتحديد ما يُمكن وصف حالة لبنان به. من هنا مطالب صندوق النقد الدولي بتحرير سعر الصرف.
الرابع هو مستوى الأسعار المحلية العالية التي تؤدّي إلى تضخم وبالتالي إلى اختلال التوازن في ميزان المدفوعات.
الخامس سعر الفائدة المرتفع الذي يجذب رأس المال الأجنبي والعكس بالعكس، ويسبّب تاليا حالة من عدم التوازن.
أما السادس الأخير فهو نموّ الدخل الوطني الذي يؤدي في غياب إجراءات جمركية إلى زيادة الطلب على الواردات، بما من شأنه أن يؤثر سلبًا على ميزان المدفوعات.
بين السبب والنتيجة
إن تأثير عجز ميزان المدفوعات يعتمد جزئيًا على سببه! فإذا كان بسبب قروض أو استثمارات في الخارج، فقد يعني ذلك أن البلد يزيد ثروته في الخارج وبالتالي يقوّي حسابه الجاري في المستقبل من خلال تدفّق الفوائد والأرباح الناتجة. من ناحية أخرى، يعني العجز في الحساب الجاري أن الأمة تنفق أكثر مما تجني.
عجز ميزان المدفوعات، وخصوصاً إذا كان مُزمنًا، يشكّل تهديدًا كبيرًا لديمومة البلد لا سيّما إذا كان يواكبه عجز في الموازنة كما في لبنان. وتُشير المحاكاة التي قمّنا بها لاحتساب سعر صرف الليرة اللبنانية مُستخدمين ميزان المدفوعات إلى إلزامية خفض سعر الليرة مُقابل الدولار الأميركي بنسبة كبيرة وهو ما سينعكس حكمًا على الواقع الإجتماعي اللبناني! من هنا ضرورة تبنّي تدابير مؤقتة تهدف إلى وقف التدهور، والبحث عن حلول طويلة الأجل تتضمن إعادة هيكلة الاقتصاد بالكامل:
طرُق إعادة هيكلة الاقتصاد
أولًا – التدابير المؤقتة: وهي أربعة تدابير. اثنان منها مرهونتان بالإصلاحات (الاقتراض من دولة أخرى أو برنامج مع صندوق النقد الدولي)، واثتنان داخليتان (فرض رسوم جمركية عالية وفرض قيود على الاستثمارات) وتدفقات الرساميل الأخرى).
ثانيًا – التدابير الطويلة الأجل من خلال ثلاثة إجراءات هي توسيع الصادرات وهو حلّ مثالي للعجز في الحساب الجاري على المدى الطويل، عبر سياسة ضريبية وتشريعية ملائمة (مثلًا تحفيز إنتاج محلّي لأكثر من 50 منتج مستورد). الثاني من خلال سياسة نقدية متشددة وذلك بهدف لجم التضخم ورفع أسعار الفائدة أقلّه على المدى القصير. إلا أن هذا الإجراء بحاجة إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي. والإجراء الثالث الذي لا بدّ منه يُعتبر إجراء مفتاحيا هو الذي ينصّ على تخفيض قيمة الليرة اللبنانية فيُحفّز الصادرات ويلجم الواردات.
إلا أن تخفيض قيمة الليرة اللبنانية مُقابل الدولار دونه مشاكل وعقبات. اقتصاديّاً، حين تنخفض قيمة العملة، يتدهور ميزان التجارة قبل أن يُعاود التحسّن. يعود ذلك إلى أن أسعار الواردات تصبح أكثر تكلفة على الفور تقريبًا، بينما لا يزداد حجم الصادرات بشكل فوري بسبب عوامل مثل العقود الحالية والوقت الذي يستغرقه المشترون الأجانب للتكيّف مع الأسعار الجديدة. نتيجة لذلك، ترتفع تكلفة الواردات بسرعة أكبر من إيرادات الصادرات، فيحدث تدهور مؤقت في ميزان التجارة.
أمّا على المدى الطويل وفي حال نجحت الصناعة اللبنانية في جذب أسواق خارجية يزداد حجم الصادرات. في الوقت نفسه، يعتمد الطلب الداخلي أكثر على الإنتاج المحلّي نظرًا إلى فرق الكلفة مع المستورد. وفي النهاية، يتحسن ميزان التجارة.
هذا الأمر لا يتمّ على الأرض من دون ثمن إجتماعي. فارتفاع تكلفة المعيشة في لبنان الذي يستورد ما يُقارب الـ 80% من استهلاكه، سيؤدّي إلى أزمة معيشية بحكم أن التجّار يُفضّلون تصدير البضائع على بيعها في الداخل لأنّ السعر أعلى. ومع ارتفاع أسعار الإستيراد، ستكون أيضًا كلفة استيراد الآلات والمواد الخام التي تستخدمها الصناعات المحلية أعلى. وهو ما يُلزم المصنّعين على زيادة أسعارهم. أيضًا من التداعيات لخفض الليرة مُقابل الدولار الأميركي ما يطال مداخيل الحكومة من الرسوم والضرائب على الاستيراد.
عمليًا، كيف للحكومة العتيدة أن تُخطّط لكل هذا؟ في الواقع، هناك هامش خطأ كبير في التقديرات. حتى في البلدان التي تمتلك أرقاما دقيقة. من هنا ضرورة الالتزام الكبير بالعملية الإصلاحية والتعاون مع المُجتمع الدولي للخروج من هذه المعضلة.