خسر "الحزب" حلفاءه الأساسيين وفي طليعتهم النظام في سوريا، وإيران التي لم تكن لديها شهية القتال المباشر. وفقد شركاءه في المحور، وتآكلت مصادر دخله التي كان ينفق منها على مقاتليه وشؤونه الأخرى. ظهرت قوته على حقيقتها: قادر بسلاحه على الداخل وعاجز أمام التفوّق العسكري الإسرائيلي.

مع انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسا للجمهورية وتسمية أغلبية نيابية السفير والقاضي نوّاف سلام لترؤس الحكومة، شعر "حزب الله" بأنه لم يعد صاحب ذلك النفوذ الذي مكّنه طوال سنين من السيطرة على مفاصل الدولة. وعبّر عن ذلك الشعور رئيس كتلته النيابية النائب محمد رعد الذي أوحى وكأنّ "حزب الله" والرئيس نبيه برّي تفاهما مع المرشّح عون على صفقة تشمل انتخابه رئيسا ، وعلى استمرار نجيب ميقاتي في رئاسة الحكومة، والاتفاق على شكلها والحصة الشيعية فيها، وضمانات للإبقاء على سلاح "الحزب" شمالي نهر الليطاني.

والحقيقة أنّ أي تفاهم كهذا لم يحصل، ولا كان المرشّح الرئاسيّ بحاجة إليه. قرّر "حزب الله" انتخاب جوزاف عون في الجلسة الثانية حتى لا يبقى في عداد الأقلية. أما رئيس الحكومة فليس الرئيس من يختاره، وقضيّة السلاح واضحة كما مصيره، وهو منصوص عليه في اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافق عليه الجميع بدون استثناء بكل تفاصيله، ولم توافق عليه الحكومة إلا بعد موافقة "الحزب". وبوجود النص يبطل الاجتهاد. الفارق بين 2006 واليوم أن اسرائيل و"حزب الله" التقيا على مصلحة عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701، أما اليوم فتنفيذ هذا القرار وكل القرارات ذات الصلة شرط لازم.

لا يمكن أن يُحكى عن تفاهم قبل انتخاب الرئيس حين يبدّد خطاب القسم كلّ حديث يختلف عن مضمونه. وبوضوح كلي: لا سلاح. لا ميليشيات. لأنّ السلاح حقّ حصري للدولة.

لكنّ هذا لا يعني أن الطائفة الشيعية مستهدفة. هذا ما جاء في خطاب القسم. وهذا ما ردّده الرئيس يوم الثلاثاء أمام وفد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"أيّ انكسار لأيّ مكوّن هو انكسار للبنانيّين جميعاً."

وهذا ما تصدّى له رئيس الوزراء المكلّف نوّاف سلام حين قال إنه وحدوي وليس إقصائيا ويداه ممدودتان للجميع.

ثمّ إذا كان كل منتسب إلى "حزب الله" وحركة "أمل" شيعياً فليس كل شيعي منتمياً إليهما، حتى ولو احتكرا التمثيل السياسي للطائفة لعقود بحكم الأمر الواقع.

حقبة على أفول

هيمن "حزب الله" على الحياة السياسية في لبنان منذ تحالفت راعيته إيران مع سوريا بما أتاح لها فرصة لخلق "هلال شيعي" يوصلها إلى مياه المتوسط مرورا بالعراق. وانطلاقاً من بداية الألفية الثانية عزّز "حزب الله" موقعه ونفوذه في السياسة المحلية بعدما أفضى الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب إلى خلق الخط الأزرق.

وحلّ نفوذ "حزب الله" محل النفوذ السوري بعدما سحبت سوريا جيشها من لبنان آخر نيسان 2005. وفي تمّوز 2006 نكث "الحزب" بوعد أعطاه أمينه العام حينذاك السيّد حسن نصرالله بصيف هادئ فخطف جنديين إسرائيليين وشرّع الباب أمام عملية عسكرية إسرائيلية دمّرت البنية التحتية اللبنانية وأفضت إلى قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي طالب بإخلاء جنوب نهر الليطاني من أيّ وجود مسلّح باستثناء القوى الشرعية اللبنانية وقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام وبتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة ولا سيّما القرار 1559 المتعلق بحل الميليشيات ونزع سلاحها على كامل الأراضي اللبنانية، والقرار 1680 المعني بتأمين الحدود اللبنانية مع سوريا ومنع مرور أي نوع من أنواع السلاح عبرها.

لكنّ القرار 1701 لم يطبَّق إذ التقت المصالح على عدم تطبيقه وهيمن "الحزب" على السلطة السياسية بعدما استخدم في الداخل سلاحه الذي كان يقول إنه موجّه فقط ضد إسرائيل.

منذ ذلك الوقت وحتى انطلاق حرب إسناد غزة التي أعلنها "الحزب" من جنوب لبنان، نعِمت الحدود اللبنانية الإسرائيلية بهدوء، وهذا ما أتاح لـ "الحزب" المشاركة في الدفاع عسكريا عن النظام الذي كان قائماً في سوريا وتشبيك المصالح مع قوات النظام والحرس الثوري الإيراني والفصائل العراقية الموالية له التي انتشرت في سوريا.

أظهر فتح جبهة جنوب لبنان أخطاء فادحة في حسابات "الحزب" الذي كان قد نجح في إيهام اللبنانيين والجوارَين الأقرب والأبعد أنه قوة عسكرية قادرة على ردع إسرائيل، وأنه صاحب القرار، إلى حدّ أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، حين سئل عن موقف الحكومة من الحرب، قال بالفم الملآن "في أي كوكب تعيشون؟ قرار الحرب والسلم ليس في يدي بل عند حزب الله."

برز الخطأ في الحسابات أكثر مع اضطرار "الحزب" إلى طلب وقف إطلاق النار في أعقاب تصعيد إسرائيل الحرب عليه. فقد تلقّى ضربات عسكرية قاصمة حتى ولو لم تتمكّن إسرائيل من التوغّل بعيداً في الجنوب. تهجّر أكثر من مليون لبناني قسرا بعدما سوّت إسرائيل عشرات القرى الحدودية بالأرض. ولحق بالضاحية الجنوبية والبقاع دمار هائل، عدا عن آلاف القتلى والمصابين، مقاتلين ومدنيين.

وفي هذا الواقع لا تفيد المكابرة!

خسر "الحزب" حلفاءه الأساسيين وفي طليعتهم النظام في سوريا، وإيران التي لم تكن لديها شهية القتال المباشر. وفقد شركاءه في المحور، وتآكلت مصادر دخله التي كان ينفق منها على مقاتليه وشؤونه الأخرى. ظهرت قوته على حقيقتها: قادر بسلاحه على الداخل وعاجز أمام التفوّق العسكري الإسرائيلي. وسيكون عليه اليوم تسليم ما تبقى من سلاحه على كامل الأراضي اللبنانية.

المرحلة الجديدة

عرف العماد جوزاف عون أن يبني صدقيّة في قيادة الجيش ويحفظ وحدته ويحميه من التدخل السياسي ويصدّ عنه محاولات استخدامه لمصلحة سياسية فرديّة أو حزبية. وأسهم في تعزيز هذه الصدقية أداءُ الجيش في معاركه ضد التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم "داعش" والتنظيمات المشابهة. ولذا اعتبره المجتمع الدولي حليفاً موثوقا به.

ونظراً إلى هذا الثقة، انسحب سائر المرشحين الطامحين إلى تبوّء المنصب الأول في الدولة، فتشكّل إجماع سياسي حول عون، التحق به "الحزب" في الجلسة الثانية.

مع انتخاب عون، سيكون للجيش اللبناني دور مركزي في توفير الشروط المطلوبة للإنقاذ من خلال تطبيق بنود اتفاق وقف إطلاق النار كلها والانتشار جنوبا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، والإمساك بالجانب اللبناني من الحدود مع سوريا.

وعليه، يأمل الجميع مع تشكيل الحكومة سريعا أن يبدأ الإصلاح السياسي والاقتصادي والمالي تمهيدا لإعادة الإعمار.

مع انتخاب عون، بدأت عودة الانفتاح الدولي على لبنان. انتقل الرئيس القبرصي إلى بيروت بعد الانتخاب لتهنئته. زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت معرباً عن استعداد بلاده الكامل للمساعدة. أتى عدد من وزراء الخارجية العرب والأجانب للتهنئة والتباحث، وعديدون غيرهم منتظَرون. وها هو الأمين العان للأمم المتحدة يصل اليوم السبت دليلَ ارتياح وتعاون.

تحدّيات؟

مع ذلك تبقى تحدّيات أبرزها احتمال عدم انسحاب إسرائيل أو استمرارها في الضرب الاستباقي. وقد يتحرك الوضع على الحدود مع سوريا على الرغم من كل محاولات ضبطه. في هذه الحالات يصبح لبنان كله مقاوما.

لكن قد يبقى تحديات أخرى داخلية نابعة من عدم اقتناع "الحزب" بأنّ وضعه تغيّر وأنَ مرحلته آفلة. قد يكون صعباً على "الحزب" أن يتعايش مع فقدان قياداته السياسية والعسكرية والأمنية وتدمير جزء كبير من بنيته العسكرية، ومع زيادة الضعط عليه لتسليم سلاحه. قد يكون صعبا عليه القبول بنضوب موارده المالية وعدم قدرته على الوفاء بالتزاماته تجاه مقاتليه وعائلاتهم وعائلات من استشهدوا ومن أصيبوا. وهذه صعوبات لا بد من تضافر جهود الجميع لحلها. والطريق واضح، وهو تخلّي "الحزب" عن دوريه العسكري والإقليمي السابقين وتركيزه على الدور السياسي، وهو به خبير.