أثار الرئيس المنتخب دونالد ترامب عاصفة من الاستهجان في الولايات المتحدة والعالم عندما عبّر بفجاجة في مؤتمره الصحفي في السابع من هذا الشهر عن نيّته إعادةَ وضع اليد على قناة بنما ولو باستخدام الوسائل العسكرية، وشراء غرينلاند، وضمّ كندا إلى الولايات المتحدة ولايةً واحدةً وخمسين، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا. أثارت تصريحات ترامب مزيجا من عدم التصديق والقلق والرفض الصريح من مختلف قادة الدول والشخصيات السياسية الأميركية.

بنما، غرينلاند، كندا

عبّر ترامب عن رغبته في إعادة سيطرة الولايات المتحدة على قناة بنما، ووصفها بأنها طريق تجاري حيوي. وكان الرئيس بيل كلينتون قد سلّم بنما السيادة على القناة عام 1999 وفقا للاتفاقية المعقودة بين الدولتين. وأشار إلى أن "قناة بنما حيوية لبلدنا،" ملمحا إلى الاستعداد لاستخدام القوة إذا لزم الأمر لتأمين المصالح الأميركية في المنطقة.

هذا النهج يعيد إحياء "عقيدة مونرو" التي استخدمتها الولايات المتحدة تاريخيا لتبرير تدخّلها في أميركا اللاتينية. ما يسمّى عقيدة مونرو هو مبدأ مهمّ في السياسة الخارجية للولايات المتحدة عبّر عنه الرئيس جيمس مونرو في رسالته السنوية إلى الكونغرس في الثاني من كانون الأول 1823. ظهرت هذه العقيدة في فترة من القلق المتزايد من الطموحات الاستعمارية الأوروبية في الأميركتين، لا سيما بعد الحروب النابليونية وحركات الاستقلال في أميركا اللاتينية.

في ما يتعلق بغرينلاند، كرر ترامب اهتمامه الطويل الأمد في الحصول على الإقليم من الدنمارك. وهدّد بفرض رسوم جمركية عالية على الدنمارك إذا لم تمتثل لمطالب الولايات المتحدة المتعلقة بوضع غرينلاند. وأكد "نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي".

تمتدّ طموحات ترامب إلى كندا، إذ اقترح أنّ في إمكانه استخدام الضغط الاقتصادي لإقناع الكنديين بالانضمام إلى الولايات المتحدة لتكون كندا الولاية الواحدة والخمسين. ووصف الحدود بين الولايات المتحدة وكندا بأنها "خط مرسوم بشكل مصطنع" وهدّد بفرض تعريفات كبيرة على السلع الكندية إذا لم تتماشَ مع سياسات إدارته.

نهج ترامب سيؤدي إلى مقاومة شرسة من "الدولة العميقة" التي تعهد بسحقها

ردود الفعل

دان الديمقراطيون وبعض المعتدلين الجمهوريين تصريحات ترامب ووصفوها بأنها استفزازات خطيرة تقوّض علاقات الولايات المتحدة الدبلوماسية مع دول الجوار. ويقول منتقدو ترامب إن مثل هذه التصريحات يمكن أن تؤدي إلى زيادة التوتر وسوء التفاهم مع كندا والدنمارك، وهو ما قد يعرض العلاقات التجارية المهمة للخطر، ويعرض للخطر حلف شمال الأطلسي بأكمله.

على الصعيد الدولي، أثارت تصريحات ترامب قلقاً وعدم تصديق. وقالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن إن غرينلاند ليست معروضة للبيع وكررت التزامها بالحكم الذاتي لغرينلاند. ورفض رئيس وزراء غرينلاند أي اقتراح لبيع الأراضي أو التنازل عنها للولايات المتحدة. ويعكس هذا الشعور قلقا أوسع بين الدول من أحادية الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب.

وردّت حكومة بنما بحزم أيضاً، مؤكدة أن القناة ستظل تحت سلطتها على النحو المتفق عليه في المعاهدات التاريخية.

التداعيات الجيوسياسية

تبدو تصريحات ترامب جزءا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز عقيدة "أميركا أولا" التي تولي مصالح الولايات المتحدة أهمّية أكبر ممّا توليه للمبادئ والتعاون المتعدد الأطراف. وبوضع الطموحات الإقليمية في إطار الأمن القومي والضرورة الاقتصادية، يسعى ترامب إلى حشد الدعم بين قاعدته في تحدّيه المعايير الدبلوماسية التقليدية.

الآثار المترتبة على هذا النوع من الخطاب ليست مجرّد جلَبَة وضوضاء، بل تشير إلى تحوّل محتمل نحو تكتيكات لسياسة الخارجية أكثر عدوانية تذكّر بالتدخلات السابقة للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية وخارجها. ويحذر الكثيرون من أنّ مثل هذا النهج قد يثير ردّ فعل عنيفاً ليس فقط من الدول المتضررة ولكن أيضا من قوى دولية أخرى مثل الصين، التي قد ترى فرصة لتوسيع نفوذها والتمدّد نحو مناطق ترغب في ضمّها أسوة بالولايات المتحدة.

سوابق توسيع الأراضي الأميركية

للولايات المتحدة تاريخ طويل في توسيع أراضيها بالوسائل العسكرية. من أبرز الأمثلة على ذلك ضم تكساس، والحرب المكسيكية الأميركية، وما نتج عن الأيديولوجية الأوسع المسمّاة "القدَر الواضح" والتي كانت وراء الطموحات التوسعية طوال القرن التاسع عشر.

يُعَدّ ضمّ تكساس مثالا أساسيا على التوسع الإقليمي الأميركي بالوسائل العسكرية والدبلوماسية. بعدما حصلت تكساس على الاستقلال عن المكسيك عام 1836 سعت للانضمام إلى الولايات المتحدة. إلا أنّ الرئيس مارتن فان بورن تردّد في ضم تكساس بسبب مخاوف من إشعال شرارة الحرب مع المكسيك. توقفت الجهود في هذا المنحى إلى أن تسلّم الرئيس جون تايلر الحكم، وبلغت ذروتها في قرار مشترك أصدره الكونغرس في شهر آذار 1845 بالاعتراف تكساس ولاية. خلق قرار الضم توترا في العلاقات مع المكسيك التي كانت ترى تكساس جزءا من أراضيها. بعد الضم، أمر الرئيس جيمس بولك القوات الأميركية بالدخول إلى الأراضي المتنازَعة بين نهرَي نويسيس وريو غراندي، فتصاعد التوتر واندلعت الحرب المكسيكية الأميركية في عام 1846 عندما تذرّع بولك بتلك المناوشات لتبرير إعلان الحرب ضد المكسيك. استمرت الحرب سنتين وقد تكون أهمّ مثال على التوسع العسكري الأميركي في القرن التاسع عشر. ووضعت إدارة بولك الحرب في إطار تحقيق مبدأ "القدَر الواضح." وما يعنيه هذا المبدأ صراحة هو الاعتقاد بأن قدَرَ الأميركيين هو التوسع في جميع أنحاء أميركا الشمالية. انتهت الحرب بمعاهدة غوادالوبي – هيدالغو عام 1848، والتي تنازلت بموجبها المكسيك عمّا يقرب من 525,000 ميل مربع (نحو 1،360 مليون كيلومتر مربع) من الأراضي للولايات المتحدة، بما في ذلك كاليفورنيا ونيفادا ويوتا وأريزونا الحالية وأجزاء من كولورادو ونيو مكسيكو.

"القدر الواضح"

انتشرت عقيدة "القدر الواضح" أيديولوجية في القرن التاسع عشر واستُخدِمت لتبرير التوسع الأميركي. صاغها الصحافي جون أوسوليفان في عام 1845، وهي تجسّد الاعتقاد بأن الله أعطى الأميركيين حقّ الانتشار في جميع أنحاء أميركا الشمالية من الساحل إلى الساحل. لم يؤد هذا الاعتقاد إلى تغذية عمليات الاستحواذ على الأراضي فحسب، بل أيضا إلى تبرير تهجير السكان الأصليين قسراً وإلى صراعات مع دول أخرى. في ظل هذه الأيديولوجية، غالبا ما كان الأميركيون يرون العمل العسكري وسيلة ضرورية لتحقيق "قدّر" أميركا.

كانت هناك أيضا حالات بارزة أخرى من التوسع الإقليمي الذي كانت عقيدة "القدَر الواضح" وراءه، بما في ذلك الحرب الإسبانية الأميركية، التي أسفرت عن مكاسب إقليمية كبيرة للولايات المتحدة، بما فيها بورتوريكو وغوام والفلبين، وضم هاواي عام 1898 بعد خمس سنوات من إطاحة الملكة ليليوكالاني عام 1893، بمساعدة الشركات الأميركية الكبرى.

الآثار الاقتصادية على الولايات المتحدة

غالبا ما يتضمن نهج ترامب في التوسع فرض الرسوم الجمركية كوسيلة لممارسة الضغط الاقتصادي. هذا ما فعله على الفولاذ الصيني والنبيذ الفرنسي. هذه الرسوم المقترحة ستؤدّي إلى ارتفاع التكاليف على الشركات والمستهلكين الأميركيين.

وفيما يؤكد ترامب أن سياساته ستحفز الشركات على نقل التصنيع إلى الولايات المتحدة، يساور الشكّ الكثيرين. فتكاليف العمالة المرتفعة في الولايات المتحدة ستجبر الشركات على التصنيع خارج الولايات المتحدة أو على رفع أسعارها إن هي نقلت مصانعها إليها.

ويمكن أيضاً أن تؤدي سياسات ترامب للهجرة، والتي قد تتأثر بخطابه التوسعي، إلى انخفاض العمالة مع تنفيذ الترحيل الجماعي الذي يهدّد به. وسيؤدي هذا الانخفاض في العمالة المتاحة إلى ارتفاع تكاليفها والتأثير سلبا في إمكانات النمو الاقتصادي.

ومع ذلك، إذا اتّبع ترامب سياسات اقتصادية عدوانية تجاه كندا، مثل فرض رسوم مرتفعة إن لم توافق كندا على الانضمام إلى الولايات المتحدة، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل العلاقات التجارية بين البلدين.

ويمكن أن تؤدي الطموحات العسكرية المتعلقة بقناة بنما إلى عدم الاستقرار في العلاقات بين الولايات المتحدة وبنما وتلهم الدول "التوسعية" الأخرى لفعل الشيء نفسه.

الاستقرار الجيوسياسي والعواقب الاقتصادية

يمكن أن يؤدي احتمال تعزيز الوجود العسكري الأميركي أو المناورات الدبلوماسية العدوانية في ظل إدارة ترامب إلى زيادة التوتر ليس فقط مع كندا وبنما ولكن أيضا مع الدول الأخرى التي تراقب هذه التطورات عن كثب. ويمكن أن يكون لعدم الاستقرار الجيوسياسي هذا عواقب اقتصادية بعيدة المدى، بما في ذلك زيادة عدم اليقين، وتعطيل سلاسل التوريد العالمية، والتدابير الانتقامية في البلدان المعنية.

ولا يزال من غير الواضح أن تنجح تهديدات ترامب بالإكراه العسكري والعقوبات الاقتصادية. ويقول أنصاره داخل الحزب الجمهوري إنه يلجأ إلى تكتيكاته التفاوضية المعتادة، وهذه واحدة منها، فيما يتهمه خصومه بالسير في طريق خطير من شأنه تقويض النظام العالمي القائم.

وهناك من يعتقد أن نهج ترامب سيؤدي إلى مقاومة شرسة من "الدولة العميقة" التي تعهد بسحقها.