تتسارع الخطوات الحكومية، بعد انتهاء الحرب، لتمرير مجموعة من مشاريع القوانين المالية والنقدية "الإشكالية"، وإحالتها إلى مجلس النواب قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة. ومن مشاريع القوانين هذه، يبرز مشروع تعديل قانون النقد والتسليف.

في ربيع العام 2023، شكلت الحكومة لجنة من متخصصين مشهود لهم بالكفاءة العلمية والنزاهة، لمراجعة قانون النقد التسليف (1963)، وتعديله حيث تدعو الحاجة. وبالفعل أنجزت اللجنة المهمة على أكمل وجه، ورفعت التقرير النهائي إلى رئاسة مجلس الوزراء قبل نهاية العام الماضي. وتعتزم الحكومة مناقشة التقرير في جلساتها الاخيرة، تمهيداً لاحالة التعديلات إلى مجلس النواب لاقرارها بقانون.

المآخذ على التعديلات التي طالت بعض المواد

حرصت اللجنة من خلال التعديلات على ضمان عدم استغلال المصرف المركزي لبعض المواد، وتطبيقها بما يخالف النص، فاصابت في بعض التعديلات، وأثارت في البعض الآخر موجة من الاعتراضات من قبل حقوقيين ومصرفيين.

المادة 2

تضمنت التعديلات إلغاء المادة 2 التي تحدد قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص، مع ايجاد آلية لتحديد سعر الصرف. وابقت على المادة 229 التي تتيح لوزير المالية تحديد السعر. ويشرّع هذا التعديل "الخروج الحاصل عن الأحكام القانونية الملزمة في قانون النقد والتسليف والنصوص، ولاسيما أن السعر الإنتقالي قد جرى تحديده والإنتهاء منه إبان انتهاء إتفاقية "بريتن وودز"Bretton Woods في سبعينيات القرن المنصرم،" برأي المحامي المتخصص في الشأن المصرفي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر.

عندما كانت اتفاقية "بريتن وودز" Bretton Woods، التي ربطت قيمة العملات بالذهب سارية المفعول اعتبر قانون النقد والتسليف في المادة 2 منه، أن قيمة الليرة يحددها القانون من خلال ربطها بالذهب الخالص. وقد نصّت المادة 229، من القانون عينه على أن الإجراءات الإنتقالية يتخذها وزير المال لحين تحديد السعر القانوني وانتظام سعر السوق الحرة. نصّت تلك المادة على سعر انتقالي قانوني لليرة اللبنانية يعتمد بالنسبة لـ "أقرب ما يكون من سعر السوق الحرة". وقد أصدر وزير المالية في حينه القرار الرقم 1/4800 سنة 1964، الذي حدد سعراً انتقالياً لليرة اللبنانية نسبة إلى الدولار الأميركي.

ولكن، مع إلغاء مبدأ السعر الثابت للدولار الأميركي بالنسبة للذهب سنة 1973، ووضع حد لاتفاقية "بريتون وودز"، صدر المرسوم الرقم 1973/6105 الذي نصت مادته الأولى على: "ريثما يصبح بالإمكان تطبيق أحكام المادة الثانية من قانون النقد والتسليف، تعطى الحكومة لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون، صلاحية تحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة اللبنانية بعد استشارة مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي." وفي سنة 1973، بعدما قررت الحكومة الأميركية تخفيض قيمة الدولار نسبة إلى الذهب، اتخذ مجلس الوزراء في 21 آذار1973 قراراً قضى بتكليف وزير المالية تحديد سعر انتقالي جديد. وبالفعل، أصدر وزير المالية القرار الرقم 883 في 28 آذار 1973 الذي نص على أنّ "الضرائب والرسوم التي تستوفيها الدولة وسائر مصالح القطاع العام عن المبالغ المحررة بالعملات الأجنبية تحسب على أساس متوسط أسعار القطع الفعلية في سوق بيروت التي تكون قد تحققت خلال الفترة المتراوحة ما بين الخامس والعشرين من كل شهر والخامس والعشرين من الشهر الذي يليه". ومنح البرلمان الحكومة بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم الرقم 6105 تاريخ 5 تشرين الثاني 1973 صلاحية تحديد سعر انتقالي جديد. ومنذ ذلك التاريخ اعتمد المشرّع اللبناني سوقا حرا لتداول العملات يستند إلى طبيعة الدستور اللبناني الليبرالي والتطور العالمي الحاصل. وفي العام 1983صدر المرسوم الإشتراعي الذي حصر بشكل بات تام وناجز مهمة التداول بالنقد في ردهة البورصة، وهي المكان الطبيعي لتداول العملات. و"هذا ما يتوافق مع طبيعة النظام الليبرالي الحر المعتمد في الجمهورية اللبنانية،" برأي ضاهر، "إلا أن هذا النص القانوني قد جرى الإعتداء عليه وعلى صلاحية ردهة بورصة بيروت، وهي السوق الرسمي الوحيد للتداول الحر للعملات من خلال تصرفات وقرارات المصرف المركزي. مع الإشارة هنا إلى أنه لا يجوز للمصارف المركزية أن تمتلك صلاحية الإشراف على عمل الأسواق الحرة للعملات، ونحن نقترح تطويرها وجعلها منصة إلكترونية تعمل تحت إشراف البورصة، ما سيؤدي إلى توحيد سعر الصرف بشكل قانوني ليبيرالي."

ما فعلته اللجنة من خلال إلغاء المادة 2، برأي ضاهر إنها "اعطت وزير المالية صلاحية تحديد سعر صرف انتقالي، علما ان هذا السوق استمر حرا إلى حين وصول رياض سلامة الذي رأى أن هذا السوق يجب أن يتوقف والمصرف المركزي يحدد سعر الصرف من خلال سعر ينشره يوميا. ومن هنا بدأ ترتكب الموبقات."

المادة 17

ومن تلك المواد الي وقع عليها التعديل بشكل غير فاعل تبرز برأي ضاهر المادة 17. "إذ عادت وخلقت واقعا ملتبسا وجمعت في الحاكمية بين سلطتي التقرير والتنفيذ، أي بين المجلس المركزي المقرر والحاكمية المنفذة، وهذا يخالف توصيات "بنك التسويات الدولية،" وهذا ما اشار اليه الاستاذ توفيق شمبور ايضا، لا سيما وان تلك التوصيات ترمي إلى بناء حوكمة رشيدة من خلال تغييب الاعضاء المستقلين عن التنفيذيين، وقد شددت التوصية على وجوب ان يكون عدد الاعضاء المستقلين اعلى بهدف المحافظة على عدم تبعتيهم وتغليب صوت العلم على ما عداه.

المادة 76

تعديل المادة 76 سيؤدي أيضا إلى تشريع المخالفات التي وردت في تعميم التوظيفات الالزامية، حيث نصت الفقرة (د) من النص الاساسي على "الزام المصارف بان تودع لديه (المركزي)، اموالا (احتياطي ادنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والاموال المستقرضة التي يحددها "المصرف،" باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف اخرى. ويمكن للمصرف المركزي أن يعتبر، اذا رأى ذلك مناسباً، توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدّرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له أمر تحديدها. ولا يمكن للمصرف المركزي ان يحدد نسبة الاحتياط الادنى باكثر من 25 في المئة من الالتزامات تحت الطلب، وباكثر من 15 بالمئة من الالتزامات لاجل معين". وقد نص التعديل على منع وضع احتياطي بالعملات الاجنبية، "مع العلم ان الاحتياطي هو سلاح فعال في يد المركزي يشهره لامتصاص فائض الليرة أو أي عملة اجنبية، ولاسيما بعد التعديل الحاصل في العام ٦٨ وكل ذلك بهدف حماية استقرار النقد ومنع المضاربة على العملة الوطنية،" برأي ضاهر. "وليس من الضروري ان يحتفظ المركزي بالمبالغ لديه، إنما ان يبقيها تحت رقابته في المصارف، وذلك على غرار ما يفعل المصرف المركزي السويسري."

المادة 90

التعديل الذي لحق بالمادة 90، لم يكن واضحا أيضا. ففي حين تنص هذه المادة على انه "باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89، فالمبدأ ألا يمنح المصرف المركزي قروضا للقطاع العام". لكنّ التعديلات حَددت نسبة تسليف الدولة بـ 5 في المئة من متوسط وارداتها لثلاث سنوات متتالية ولمدة 5 اشهر، ومن أمول المصرف الخاصة. وعدا عن عدم جواز إقراض الدولة باي حالة من الحالات، فان التعديل لم يشر الى نقطة جدا مهمة وهي إذا كان مبدأ عدم الاقراض من اموال مصرف لبنان، ينسحب ايضا على اكتساب مصرف لبنان لسندات الدين في السوق الاولي. ولاسيما في ظل إمكانية المركزي إقراض الدولة من خلال تسهيلات الصندوق وفق أحكام المادة 88 و89 من قانون النقد والتسليف الراهن.

أما بخصوص الابقاء على المادة 113 ، التي تنص على أنه "اذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزا، تغطى الخسارة من الاحتياط العام"، فان ما يقصد بالعجز هو "اعمال مصرف لبنان القانونية القائمة على أعمال دعم الليرة وليس التصرف بودئع المصارف،" برأي ضاهر. "مع التشديد على أن مصرف لبنان كان يحقق باعترافه طوال الفترة الماضية أرباحا."

إضافة إلى التعديلات التي طالت المواد، فان إنشاء لجنتي السياسة النقدية، وهيئة التدقيق المستقلّة، المسؤولتين عن التدقيق في قرارات المصرف المركزي وبياناته المالية، يعتبر غير مجدي بحسب ضاهر "فهما يصدران توصيات غير ملزمة الامر الذي سيرفع نسبة تشتيت الرقابة".

هل كان من الافضل ان يبقى القانون كما هو ويتم تفعيل تطبيقه؟ وهل المشكلة "تكمن في النفوس، لا في النصوص،" والاخطاء التي ارتكبها المصرف المركزي، ولاسيما في الحقبة التي أعقبت تولي رياض سلامة الحاكمية، نتجت عن انحرافات تطبيقية؟ اسئلة كثيرة تتطلب الاجابة عليها وجود "رجال دولة" في سدة المسؤولية، حرصهم على الوطن لا على المنافع الشخصية. وبشكل عام فان مراجعة قانون النقد والتسليف طالت مواد جرى تعديلها بشكل جيد ومتوافق مع التطورات الحاصلة في علم المصارف المركزية. ومن هنا يقتضي إعادة بحث التعديلات واقتراح النصوص من قبل متخصصين على اطلاع على مجمل نواحي العمل السليم للمصارف المركزية.