حدثان نقديّان أعادا أخيرًا تحريك مياه سعر الصرف الراكدة منذ أكثر من عام ونصف العام. الأول، إشاعة أخبار عن إمكان ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، بعد انتخاب رئيس للجمهورية والبدء بورشة إعادة الإعمار. والثاني، عودة الفوائد المصرفية المرتفعة جدًا على الودائع "الفريش" بالليرة.
للمرّة الأولى منذ إلغاء العمل بمنصّة "صيرفة"، السيئة الذكر، في آب 2023، يتصاعد "بخار" استعمال العملة الوطنية "المنسية" لتحقيق الأرباح. الكثيرون يسألون هل شراء الليرات مقابل بيع ما بحوزتهم من دولارات أو جزءًا منها، مجدٍ! فالخيارات المتاحة قد تؤمّن ربحًا بنسبة تصل إلى 50 في المئة. وإن كان الرهان على ارتفاع سعر الصرف، كمن يشتري السمك في البحر، فإنّ تجميد مبلغ مدة عام بفائدة تتجاوز 40 في المئة يحقّق ربحاً مضمونًا. ويمكن المتداول أن ينال 50 مليون ليرة أقلّه تعادل حوالى 600 دولار على تسييل مبلغ 1000 دولار فقط. أمّا إذا كان المبلغ 20 ألفًا مثلًا، فيحقّق ربحًا لا يقلّ عن 10 آلاف دولار في غضون عام.
استيلاد طلب على الليرة
الخروج من الـ "ZOOM IN" على المواطنين، وتكبير الصورة لكي تتسع للسياستين المالية والنقدية، يتيحان رؤية أنّ هذه الإستراتيجية بشقّيها النفسي والموضعي، "تساهم في استيلاد طلب مفبرك أو اصطناعي على الليرة اللبنانية"، برأي خبير المخاطر المصرفية محمد الفحيلي. "وتساعد المصرف المركزي على حجز فائض السيولة المتوفّرة بالليرة للحؤول دون استعمالها لأغراض المضاربة". ذلك أنّ انكماش الاقتصاد بنسبة كبيرة يتيح المجال لأيّ لاعب أن يؤثّر سلبًا على سعر الصرف في سوق القطع الأجنبي. هذا ما يمثل "ضربة معلم"، بحسب فحيلي.
رابح رابح
من حيث الشكل، تبدو إستراتيجية استيلاد الطلب على الليرة رابحة للدولة والمواطنين، أو كما يقال "win win situation". الدولة تحول دون عودة التضخّم مع كلّ ما يحمله من تداعيات خطرة على الأجور بالليرة، والمواطن يربح. يساعد على ذلك "استشراس مصرف لبنان في الحفاظ على استقرار سعر الصرف عند معدّلاته الحالية، ومنع التلاعب به صعودًا أو نزولًا"، من وجهة نظر فحيلي، لسببين اقتصاديين:
الأول، أنّ ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار لن ينعكس تراجعًا في الأسعار على المستهلكين، ويخفض إيرادات الدولة.
الثاني، أنّ انخفاض سعر الصرف يفقد الأجور بالليرة قيمتها، ولا سيما لموظفي القطاع العام، ويزيد من عجز الموازنة ويفوّت فرص التعافي والإصلاح.
لذلك فإنّ ضمان استقرار سعر الصرف سيحفّز حاملي الليرات على تجميدها مدة قصيرة ومتوسّطة مقابل الفوائد المرتفعة من دون الخشية على ضياع قيمتها لو تدهور سعر الصرف في المدة نفسها.
تضخم الفوائد غير صحي
الطمأنة المتصلة باستقرار الأوضاع النقدية، أقلّه على المدى القريب، تقابل بشكوك جدّية في إمكان تدهور سعر الصرف الكبيرة. فالتضخّم في الفوائد غير صحّي برأي المحامي الخبير في الشؤون المصرفية الدكتور باسكال ضاهر. "وهو ناتج بكلّيته من ارتفاع الكتلة النقدية بالليرة بسبب حجم الإنفاق الحاصل من قبل الحكومة من جرّاء الحرب الأخيرة (رفع ردميات، تصليح شبكات الكهرباء والهاتف... ). هذا الضخّ بالليرة سيؤدّي بالوضع الراهن إلى اختلال في سعر الصرف بسبب الابتعاد عن أحكام القانون، والحلّ السريع وغير القانوني كان بسحب هذه الكتلة بالليرة من خلال رفع الفوائد لامتصاص النقد المعروض، وذلك بسبب الثبات غير الصحي لجميع العناصر باستثناء حجم الكتلة النقدية بالليرة، سندًا للقاعدة الأساسية: M ×V =P ×Q. أو المعروض النقدي (M) x سرعة دوران النقود (V) = سعر السلع (P) x كمية السلع والخدمات (Q).
الهدف من كلّ هذه السياسات شراء المزيد من الوقت للسلطة، بانتظار تحقيق الإصلاحات.
من أين ستُدفع الفوائد؟
إضافة إلى كل ما سبق، يبرز سؤالان أساسيان هما من أين ستُدفع الفوائد على الودائع؟ وكم ستبلغ خسارة المواطنين في حال انخفاض سعر الصرف إلى 100 ألف أو 110 آلاف أو حتى أكثر، خصوصًا بالنسبة إلى الأشخاص الذي حصلوا على الليرات من خلال بيع الدولار، لتجميدها مقابل الفوائد أو الاحتفاظ بها، في انتظار ارتفاع سعر الصرف؟
في حين يعتبر كثيرون أنّ دفع الفوائد سيكون من خلال الودائع الجديدة على غرار ما كان يحدث سابقًا. يرى فحيلي أنّ "مصرف لبنان سيدفع للمصارف قيمة الفوائد من احتياطي الليرة المجمّع لديه بكمّيات كبيرة من تجفيف الأوراق النقدية للحدّ من المضاربة خلال الفترات الماضية، إبان حاكمية رياض سلامة وصولًا إلى وسيم منصوري. ولا مانع لديه من تسديدها للمصارف مقابل مستحقّاتها لديه سواء بالليرة أو الدولار، ومن مصلحة المصارف تخفيف الأعباء عن موازناتها. بل إزالتها من موازنتها.
السياسة النقدية الجديدة بين الفوائد والمخاطر
سينتج من السياسة النقدية الجديدة أمران:
- انخفاض الطلب على الدولار كون من يملك مداخيل بالليرة كشركات النقل والسوبرماركت... وغيرها، لن تحولها إلى الدولار، بل ستوظفها بالليرة مقابل الفوائد. وذلك بعدما كانت تستعملها لتسديد الضرائب والرسوم التي أعفيت منها مؤقتًا بسبب الحرب.
- زيادة عرض الدولار في السوق مقابل شراء الليرة للاستفادة من الفوائد.
وبذلك تكون السلطة النقدية قد أصابت عصفورين بحجر واحد، إلّا أنّ هذا لا يعني غياب المخاطر عن الانخراط عن قصد بهذه العملية من قبل العديد من المتداولين. خصوصًا في ظلّ تحدّث التقارير المحلّية والأجنبية عن هشاشة سعر الصرف، ومنها البنك الدولي. والتحذير من أنّ التوسّع في الإنفاق الحكومي بالليرة في المرحلة المقبلة سيزيد الضغط على العملة الوطنية، وقد يؤدّي إلى تدهورها. هذا من دون أن ننسى طبعًا، خطّة توزيع الخسائر المعلّقة، والتي تنصّ على ليلرة الودائع، مع كلّ ما يعنيه ذلك من ضخّ كميات هائلة من الليرات في السوق لن تقلّ عن 60 ألف مليار ليرة سنويًا.
يبقى لكلّ الراغبين في اللجوء إلى سياسة "امتطاء" الفائدة الجديدة، الحذر. واحتساب الفوائد التي سيجنونها مقابل احتمال نسبة التدهور في سعر الصرف، لو حصل. ولكنْ في جميع الحالات، وقياسًا إلى التجربة الماضية، تظلّ الشكوك قائمة. ذلك أنّ الهدف من كلّ هذه السياسات شراء المزيد من الوقت للسلطة، بانتظار تحقيق الإصلاحات.