تمثّل الطاقة العقبة الكبرى في طريق الصناعة الوطنية. فهي تمتصّ ما بين 20 و30 في المئة من الكلفة التشغيلية، وتحرم المنتجات الوطنية من فرصة المنافسة في الأسواق الخارجية. وقد شكّلت الكلفة المرتفعة لتأمين الكهرباء تحدّيًا جدّيًا للصناعة المحلية، حتّى في مغالبة البضائع الأجنبية على "أرض ملعبها". ولا سيما تجاه الدول التي تدعم تصدير منتجاتها، وتُغرق السوق الداخلية بالبضائع الرخيصة. فـ"ذابت" صناعات كثيرة، مثل الزجاج والسيراميك وغيرها، وأحبطت رغبة ما تبقّى من قطاعات في التوسّع وزيادة الاستثمارات.

الأسباب التي أدّت إلى ارتفاع كلفة الطاقة على الصناعة قبل الانهيار الاقتصادي لم تكن كثيرة، ويمكن تلخيصها بعجز مؤسسة كهرباء لبنان على تأمين كفاية المعامل من الكهرباء، رغم تدنّي الأسعار. أمّا بعد الانهيار فقد أصبحت تسعيرة الكهرباء "العامة" موازية لكلفة توليد الكهرباء من المولّدات الخاصة، إن لم تكن أعلى! ومع هذا بقيت التغذية ضعيفة ولم تتجاوز 4 ساعات يوميًا بحسب أحسن التقديرات. هذا ما دفع الصناعيين مكرهين إلى إنتاج طاقتهم بأنفسهم من مولّدات، دورها كثيرًا ما يكون "احتياطيًا" وغير مخصصة للعمل على مدار اليوم، ومن مصادر الطاقة المتجدّدة حديثًا. وفي الحالتين، يضاف إلى كلفة المحروقات والاستثمار في وحدات الطاقة الشمسية، تكاليف الصيانة العالية، وشراء قطع الغيار، واستبدال البطاريات... وغيرها من الأمور التي لم يكونوا ليتحمّلوا مشقّة التفكير فيها لو كانوا يعملون في غير دولة.

تخفيض كلفة المحروقات 20%

على الرّغم من كلّ المعوقات لم ييأس الصناعيون اللبنانيون، وظلّوا يبحثون عن أجدى الطرائق لتخفيض كلفة انتاج الطاقة. "فبرزت قبل عدّة سنوات فكرة استيراد المحروقات على حسابنا"، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين، والنقيب السابق للصناعات الغذائية جورج نصراوي، خصوصًا أنّ هناك "قرارًا من مجلس الوزراء ينصّ على إعفاء المحروقات التي تخصّ الصناعة من الضرائب والرسوم". وقد دخل هذا المشروع حيّز التنفيذ أخيرًا بعد توقيع وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال، وليد فياض، اتفاقية بين الوزارة عبر منشآت النفط في طرابلس والزهراني و"جمعية الصناعيين"، تسمح باستيراد حاجاتهم من الغاز أويل، وتخزينها في خزانات منشآت النفط في طرابلس. على أن تؤمّن إدارة المنشآت وموظّفوها عملية تفريغ البواخر وتخزين المحروقات، ثم إعادة تعبئتها في الصهاريج بحسب حاجة الصناعيين اليومية، تمهيدًا لتسليمها إلى المصانع.

أهمية هذا الاتفاق تكمن بحسب نصراوي بكونه "يؤمّن نوعية محدّدة من الديزل الأحمر وبمواصفات خاصّة ومعايير عالية، تمنع تسويقه في السوق المحلّي لغايات أخرى. ويعتبر هذا النوع من المحروقات أرخص وأكثر ملاءمة للآلات والمعدّات الصناعية، وهذا ما يسمح بتحقيق وفر في ثمن المحروقات يبلغ نحو 20 في المئة، ويساعد على إيصال السلع المنتجة بسعر أقلّ". ويمكن كلّ صناعي أن يستفيد من الاتفاق بشرط "أن يكون منتسبًا إلى جمعية الصناعيين"، يضيف نصراوي. "فتُسعّر المحروقات في أرضها ويسدّد ثمنها من دون كلفة النقل. ويمكن نقل البضاعة من خلال التعاقد مع موزّعي المحروقات، أو من خلال الصهارج الخاصّة في حال امتلاكها أو استئجارها".

تتحدّد أسعار البنزين والمازوت والغاز على أساس قواعد العرض والطلب في السوق.

الحرب أنهكت الصناعة

تأتي هذه الخطوة في الوقت الذي خرجت فيه الصناعة من بعد الحرب منهكة. صحيح أنّ الأضرار المباشرة على المصانع "كانت محدودة"، بحسب الاتصالات مع الصناعيين، "وقد اقتصرت على بعض الأضرار الجزئية في البقاع والجنوب، وعلى تدمير معمل واحد في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت"، إلّا أنّ الخسائر غير المباشرة كانت كبيرة، على غرار بقية القطاعات الانتاجية والخدماتية نتيجة توقّف الإنتاج كلّيًا في بعض المعامل، وتراجع الطلب على الطبيات الجديدة، لصعوبة تقدير وقت الحرب، وخشية المستوردين من تفاقم الأوضاع وعدم إمكانية حصولهم على بضائعهم، والاستيراد من مصر وتركيا والأردن بدلًا من لبنان. "إلّا أنّ هذه الإجراءات كانت مؤقّتة وسرعان ما ستعود وتيرة التصدير إلى ما كانت عليه بعد توقف إطلاق النار"، يؤكد نصراوي. "خصوصًا أن المستوردين يكون لديهم العلامة التجارية المشهوره ويحرصون على الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها. كما أن الآمال كبيرة باستتباب الوضع السياسي داخليًا، وعودة فتح العديد من أسواق الدول الخليجية في وجه البضائع اللبنانية بعد تغيّر المشهد السياسي في المنطقة، ومنها بشكل أساسي سوق المملكة العربية السعودية الذي يعتبر وازنًا للمنتجات اللبنانية".

الحلم بإلغاء التسعيرة الموحدة

السماح للصناعيين باستيراد المحروقات دفع بعض المراقبين إلى التساؤل "هل القرار مقدّمة لفتح سوق استيراد المحروقات وتحريره من الكارتال الذي تهيمن عليه شركات محدودة. ولا سيما أنّ القطاع الصناعي بمولّداته ومعدّاته يستهلك قرابة 30 في المئة من كمّيات المحروقات المستوردة. وإن كانت مثل هذه النية موجودة، فلماذا تأخّرت طوال ّهذه السنوات؟ لماذا الآن بعد 4 سنوات من استلام الوزارة؟".

الأسئلة كثيرة، ويجب أن تكون الأجوبة عنها بإلغاء التسعيرة الموحّدة لأسعار المحروقات عبر الجدول الذي تضعه وزارة الطاقة مرّة ومرّتين أسبوعيًا. صحيح أنّ مثل هذا القرار سيؤثّر على المحطّات الصغيرة، إنّما يوقظ منافسة في سوق المحروقات، فيخفّض الأسعار، ويزيد العروض لاجتذاب المستهلكين. هذا يصبّ في خانة جميع المواطنين. وذلك على غرار جميع الدول في العالم، حيث تتحدّد أسعار البنزين والمازوت والغاز على أساس قواعد العرض والطلب في السوق. إذ تختلف الأسعار من شركة الى أخرى ومن مكان إلى آخر، بحسب الموقع وجهة الاستيراد وكلفة التشغيل... وغيرها من العوامل. وللمثال، ليس في فرنسا سعر موحد تتقيّد به الشركات. وكلّ شركة تحدّد سعر ليتر البنزين على نحو مختلف عن الأخرى، وهذا الهامش في اختلاف الأسعار يزيد المنافسة ويحسّن الخدمة والتقديمات لكسب الزبائن.