دخل الاقتصاد اللبناني منذ العام 2019 في "الحلقة المفرغة". عجزٌ هائل في الخزينة يُموّل من الاحتياطيات وطبع النقود نتيجة انعدام القدرة على الاقتراض. تسارع فقدان العملة لقيمتها الشرائية، وارتفاع التضخّم التراكمي إلى مستويات قياسية. زيادة الأجور العامة بالليرة من خلال طبع المزيد من النقود، تولّد المزيد من التضخم... وهكذا دواليك استمرت هذه العملية إلى حين إقرار موازنة تقشّفية للعام الحالي معزولة عن الإصلاحات البنيوية، صحّحت سعر الصرف المعتمد، وهذا ما ساعد المصرف المركزي على امتصاص فائض الليرات. فـ"هجع" سعر الصرف "الملتهب" تحت طبقة رقيقة من رماد الإجراءات المالية والنقدية، لن يطول حتى يتطاير مع اضطرار الدولة إلى الانفاق الحكومي بعد الحرب. وذلك كله معطوف على تراجع بالإيرادات.
الخروج من هذه "الدائرة"، التي تتزاحم حول أقواسها مجموعة هائلة من الأسباب والتأثيرات، مُشكّلةً حلقة يتدهور فيها الحال مع نتائج كلّ سبب وتأثيراته على المجموع، إذ تتوالى الآثار السلبية لتزيد الوضع سوءًا، لا يمكن أن يتم من دون "الخلع والكسر". ولا نقصد بهذا الإجراء، الشكل "الناعم" منه الذي يبقي القديم على قدمه مع تنميق الإصلاحات الشكلية، إنّما الحاد الذي يزيل مسبّبات تكرّر المشكلات كلّ عقد من الزمن، ولو باختلاف ظاهر في حدّتها.
كلّ فكرة بـ "مشكلة"
الإجراءات الجذرية وغير التقليدية ليست كثيرة العدد، بحسب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمجموعة I&C Bank جان رياشي، ويمكن تلخيصها في التالي:
- إعادة هيكلة المصارف على أساس القاعدة الرأسمالية، وهذا يعني تصفية جميع الأصول المصرفية لسداد الودائع، وإجبار المصارف التي ترغب في الاستمرار على زيادة رأسمالها.
- استخدام الاحتياطات من الذهب، وتصفية الأصول العقارية والمشاركات لمصرف لبنان من أجل سداد الودائع.
- إلغاء الليرة اللبنانية، ودولرة الاقتصاد بشكل كامل.
- تخفيض الضرائب المباشرة على الأرباح والرواتب إلى 10 في المئة.
- تحویل تعويضات نهاية الخدمة إلى راتب شهري تقاعدي، والتحوّل إلى التقاعد وفق نظام توزيع تحديد سقف الاشتراكات وللمعاشات التقاعدية ومنح إعفاءات ضريبية للاشتراك في برامج تقاعد خاصة.
من حيث الشكل، يمثّل كلّ عنوان من هذه العناوين "مشروع مشكلة"، مع ما اصطلح على تسميتهم بـ "المنظومة". والمقصود بهم جميع المستفيدين من النظام القائم، سياسيين كانوا أم أصحاب مصالح اقتصادية واجتماعية. ذلك أنّ هذه الإجراءات تقوّض كلّ مكتسباتهم. أمّا في المضمون فإنّ هذه الإجراءات قد تمثّل الخلاص للاقتصاد لمرّة واحدة ونهائية. كيف ذلك؟
إعادة هيكلة المصارف على أساس القاعدة الرأسمالية
مشكلة المشاكل تتمثّل في هيكلة المصارف، وإعادة ما يقرب من 90 مليار دولار إلى أصحابها. ولحلّ هذه المعضلة هناك بكلّ بساطة "مبدأ معتمد في الأنظمة الليبرالية الحرة، يعتبر بمنزلة دستور الرأسمالية، وكان سبق لصندوق النقد الدولي أنّ شدد على ضرورة تطبيقه في لبنان، وهو يعرف بـ: التسلسل الهرمي للمطالبة"، يقول رياشي. "إذ لا يمكن المودع بصفته الدائن أن يخسر أمواله قبل أن يخسر المساهم، أي الشريك في المصرف كلّ أمواله. وبهذا المعنى يفترض توزيع الأصول في حال التصفية على الدائنين أولًا، والفائض يُحوّل إلى المساهمين". وعليه تفترض إعادة هيكلة المصارف، تصفية جميع الأصول، "خلافًا لما يطرح من خطط تتضمّن رؤوس أقلام تلمح إلى محافظة المصارف على كلّ المبالغ التي تفيض عن إرجاع الجزء المضمون من الودائع والمحدّد بـ 100 ألف دولار للمؤهّلة و36 ألف دولار لغير المؤهّلة وعلى مدة 11 سنة"، يضيف رياشي. "وهذا لم يكن موجودًا في النسخ السابقة ممّا وضع من خطط، بحجّة تشجيع المساهمين على البقاء وزيادة الرأسمال". وهذا المبدأ مرفوض من وجهة نظر رياشي، لأنّ "كلّ مبلغ إضافي يساعد في إعادة الودائع". أمّا في ما خصّ احتجاج المصارف على بيع فروعها في الخارج لزيادة رأسمالها، "فمن الممكن إعادة شرائها بسهولة بعد الرسملة". وعلى الرّغم من منطقية هذا الطرح يَصعب تطبيقه برأي رياشي "نتيجة الضغط الذي يمارس على صنّاع القرار". مع العلم أنّ من شأن إعادة الهيكلة الصارمة تمكين جميع المودعين من الحصول على حقوقهم من الفائض المحقق في غير مصارف، بمعزل عن قدرة بعض المصارف على إرجاع حتّى المبلغ المضمون من الودائع. هذه الفكرة التقليدية جدًا تصبح من خارج الصندوق وثورية بالنظر إلى الواقع اللبناني.
أصول مصرف لبنان وذهبه
ما يملكه المودعون بشكل غير مباشر، ولهم حقّ فيه أيضًا، هو "أصول مصرف لبنان" برأي رياشي. "لأنّ المصارف وضعت أموالها في مصرف لبنان، والأخير استعملها لشتّى الأغراض". وهذا يعني عمليًا أنّ تصفية أصول مصرف لبنان ضرورية لكي تتم عملية إرجاع الودائع إلى المودعين. وتتوزع أصول مصرف لبنان على:
- احتياطي العملات الصعبة السائلة.
- عقارات ومساحات واسعة من الأراضي.
- شركات تجارية، أبرزها: انترا، وكازينو لبنان، وشركة طيران الشرق الأوسط.
-احتياطي الذهب.
وإذا كانت الأكثرية لا تعارض بيع الشركات والأراضي، واستعمال الأموال للتعويض على المودعين، فإنّ آراءها تتغير عند الحديث عن احتياطي الذهب. "وذلك على الرّغم من عجز الرافضين تبرير أهمّية الاحتفاظ باحتياطي ذهبي يقدّر بحوالى 24 مليار دولار، بأسعار اليوم"، يقول رياشي. "فالذهب لا يستخدم للمحافظة على ثبات سعر الصرف. وكلّ الليرات الموجودة في التداول لا تتجاوز قيمتها نصف مليار. وفي ما خصّ الحفاظ على احتياطي إستراتيجي فإنّ 5 مليارات دولار تعتبر أكثر من كافية. وعليه، يجب تسييل الذهب مع الشركات والعقارات للمركزي من أجل التعويض على المودعين. إذ من المستحيل إرجاع الجزء الأكبر من الودائع إن لم نتصرّف بهذه الأصول. فبند الذهب وحده كفيل بإعادة 30 في المئة من أصول المودعين وحقوقهم".
الاستعصاء التاريخي عن الإصلاح التقليدي، دفع بالكثيرين إلى طرح أفكار محطّ جدل واسع. وبغضّ النظر، إذا كانت أفكار كهذه صعبة التنفيذ، فهي قد تفيد الاقتصاد والمواطن على السواء إن أحسن تطبيقها، والمتضرّر الوحيد منها هو المنظومة.