من المنطقي أن الفالق الزلزالي الذي ضرب سوريا ونقلها من حال إلى حال بين ليلة وضحاها سيُحدث تموّجات نوعية في داخلها وارتدادات تغييرية في محيطها الأقرب والأبعد، بما يؤسس لمشهد جيوسياسي مختلف في الشرق الأوسط.

الداخل السوري بدأ يلمس الإرهاصات الأولى لملامح النظام الجديد وتوجّهاته العامة في السياسة والاقتصاد والمجتمع من خلال تصريحات مقتضبة، ولكنّها واضحة الدلالة، أطلقها الوجه الأبرز في القيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) ورئيس الحكومة الانتقالية الجديد محمد البشير ومسؤولون آخرون، وملخّصها الكف عن المزيد من الحروب وإعادة بناء سوريا على أسس مدنية حديثة واعتماد اقتصاد السوق واحترام الخصوصيات وحفظ حقوق الأقليات.

قد تكون هذه المؤشرات السلمية الديمقراطية مفاجئة للمراقبين ومناقضة للانطباعات السائدة عن تشدد "هيئة تحرير الشام" (وريثة "النصرة") بخلفيتها الدينية، لكنّ مسؤولية تحرير الدول وبنائها تفرض سلوكيات مختلفة عن مرحلة العنف والقتال، وتأخذ عوامل الانتصار بالاعتبار، وهي عوامل ليست فقط ذاتية بل موضوعية لجهة الأطراف الداعمة لهذا الانتصار.

فتركيا التي كانت أبرز الداعمين (وأول الرابحين) هي نفسها خاضعة منذ أكثر من 10 سنوات لسلطة ذات خلفية دينية بقيادة رجب طيب أردوغان، ووجدت نفسها مجبرة على اعتماد نهج منفتح تحت عنوان ما يُعرف ب"الإسلام السياسي المعتدل"، وذلك بفضل ثبات المجتمع التركي على تراثه المدني منذ ثورة مصطفى كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى.

ستكون سوريا بعد لبنان ومعه نموذجاً يصلح لاقتباسه في الدول العربية

وهكذا هي حال سوريا، ليس فقط لأن هناك مجموعات واسعة ذات نهج مدني بين مكوّنات القوى التي أسقطت نظام بشّار الأسد، أو لأن هذا النظام مارس الديمقراطية والعدالة وأرسى حكماً مدنيا، بل لأن المجتمع السوري، بكل تلاوينه الطائفية والمذهبية والعلمانية، ورغم طغيان النظام ودمويته، ذو تراث في الانفتاح الحضاري والتوق إلى الحداثة منذ خروجه من مرحلة الانتداب الفرنسي وتأثره بحريّات الجار اللبناني وأنماط حياته الاجتماعية والثقافية.

ومن هنا يحق للمتابعين والمراقبين أن يخففوا من توجّساتهم حول الحكم السوري الجديد والتخويف ممّا يُضمر، ليس فقط لأنه في بداية مرحلة الاختبار، بل لأن كل المعطيات تؤكّد استحالة إعادة إنتاج مرحلة صعود "داعش"، واستحالة استنساخ النموذج الانغلاقي الأفغاني وأصولية "القاعدة" وإرهابها.

بل ستكون سوريا، بعد لبنان ومعه، نموذجاً يصلح لاقتباسه في الدول العربية الأخرى، وتحديداً العراق واليمن، امتداداً إلى متروبول "محور الممانعة" المتساقط، أي إيران نفسها.

فالمنطقة مفتوحة على مرحلة سلام بعد استكمال حلقات الحروب المتنقلة، وهي في الأساس فروع أو ذيول للحرب الأخيرة (وهي آخر الحروب كما بيّنّا في مقالات سابقة) التي بدأت مع "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول 2023، وتنتهي بحلول وتسويات عقلانية للقضية الفلسطينية، وبتوافقات واسعة لتكريس زمن الاستقرار والازدهار.

ولا غرابة في أن يكون لبنان، بعد محنته المتمادية منذ عقود والتي ختمتها الحرب التدميرية الأخيرة، سبّاقاً إلى الالتحاق بالركب السلمي الحداثي والحضاري الذي تقوده دول الخليج العربي، بعد أن يستعيد إنعاش مؤسساته الشرعية بدءاً من انتخاب رئيس الدولة في غضون أسابيع معدودة.

صحيح أن إعادة بناء الدولة اللبنانية مسار شائك، لكنّه مضمون النجاح بعد المراجعات المُلزمة والانكفاءات الاضطرارية التي يقوم بها مصادرو شرعيتها وفارضو الخوّة السياسية والعسكرية على قرارها.

بين سوريا ولبنان مساحة، بل فرصة تاريخية، لإعادة صياغة العلاقات المتكافئة على الاحترام الفعلي لسيادة الدولتين ضمن حدود مٌرسَّمة بدقّة، وعلى الفكّ النهائي لعقدة استضعاف لبنان واستلحاقه كمحافظة سوريّة "سليبة"، وعلى قاعدة التشابه بالتنوّع ضمن الوحدة.

وكي يتبلور هذا المسار الإيجابي المشترك في مواعيد غير بعيدة، يتوجّب على الطرفَين اتخاذ خطوات عملية، خصوصاً قضية المخطوفين والمخفيين في زنازين النظام، ومن جانب لبنان عدم الوقوع في فخّ أن يكون ملاذاً أو سـِكّة تهريب لبعض المطلوبين الفارّين والمُلاحَقين بجرائم موصوفة يندى لها جبين الإنسانية، في سوريا ولبنان على السواء، وتحرّره من ثنائية السلاح القاتلة، وفقاً لبنود الاتفاق اللبناني الإسرائيلي الأخير بضمانات دولية.