عاد "جرس" الملف النفطي ليقرع محلّيًّا، بالتوازي مع تبدّلات المشهدين السياسي والأمني في المنطقة، منذرًا باحتمال زوال معوّقات الاستكشاف والاستخراج. فما من عاقل "لمس" بعد الترسيم البحري (تشرين الأول 2022) "فقدان شهية" الشركات العالمية للعمل في مياه لبنان، إلّا وعزا السبب إلى السياسة. إذ غابت الشركات النفطية عن دورة التراخيص الثانية، للتنقيب في 8 رقع بحرية من أصل 10، وتقدم ائتلاف "توتال إنرجيز، إيني، وقطر للطاقة" بطلب اشتراك "رفع عتب" في اللحظة الأخيرة قبل إقفال الباب، وتخلّف في ما بعد عن توقيع عقد الاستكشاف. فما كان من هيئة إدارة قطاع النفط إلّا أن ضمّت البلوكين 8 و10 إلى دورة التراخيص الثالثة التي فتحت في كانون الأول 2023، ولم يتقدّم إليها أحد أيضًا، بفعل توسّع الحرب منذ مطلع العام الحالي. 

حلقة الجمود هذه، كُسرت يوم أمس بإعلان وزارة الطاقة والمياه عن الترخيص لشركة TGS النروجية الأميركية بتنفيذ عمليات مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد في البلوك الرقم 8. وتنصّ الرخصة على إعادة معالجة البيانات السابقة على امتداد البحر اللبناني، باستخدام تقنيات حديثة. إضافة إلى دمج جميع المسوحات السابقة بعضها ببعض، وعرضها على شركات الاستكشاف العالمية، والترويج لدورات التراخيص في البحر اللبناني. 

إحياء الآمال باستئناف استكشاف النفط 

تكمن أهمية الحدث، الآتي من خارج سياق الجمود الذي تشهده مختلف الملفات الاقتصادية، في كونه يحيي الآمال بتحريك ملف ذي قيمة عالية، يعوّل عليه اللبنانيون لانتشالهم من محنتهم. هذا من حيث الشكل، أمّا من حيث المضمون فيمكن تقسيم الحدث ثلاثة أقسام رئيسة، تقني، وزمني، وثالث متعلّق بالشفافية والحوكمة الرشيدة.  

من الناحية التقنية، تكمن أهمية المسح في البلوك الرقم 8، في كونه من البلوكات القليلة التي لم تخضع، بعدُ، لمسح زلزالي ثلاثي الأبعاد، لوقوعها في المنطقة المتنازع عليها مع اسرائيل قبل ترسيم الحدود. "وينتج من المسوحات الثلاثية التي نفذت على حوالى 80 في المئة من المياه الاقليمية، معلومات أدقّ بما لا يقاس مع المسوحات الثنائية البُعد التي أجريت على المساحة البحرية المقدّرة بحوالى 20 ألف كلم مربع"، بحسب عضو الهيئة الاستشارية للمبادرة اللبنانية للنفط والغاز (LOGI) ديانا القيسي. "وتوفر هذه المسوحات بيانات دقيقة تشتريها شركات الاستكشاف لتحدّد موقفها من التنقيب ميدانيًا من عدمه، وبالتالي الاشتراك في دورة التراخيص التي تفتحها الدولة".  


أهمّية الشفافية  

أمّا من الناحية الزمنية، فإنّ فتح البلوك الرقم 8 على المسح الثلاثي الأبعاد لم يكن للمرّة الأولى إنما الثانية. فقد سبق لوزارة الطاقة أن أعلنت في آب 2023 عن الترخيص لتحالف شركة Geoex MCG ومقرّها بريطانيا، وشركة (Brightskies Geoscience (BGS ومقرّها مصر، للقيام بمسوحات زلزالية ثلاثية الأبعاد لقاع البحر في الرقعة الرقم (8) في المنطقة الاقتصادية الخالصة قبالة الساحل اللبناني. ولم يتطرّق وزير الطاقة، أو أيّ من المعنيين في الملف، إلى مصير المسح السابق، وما إذا أتمّت الشركتان عملهما أو تخلّفتا عن المسح. وإن كانتا قد سدّدتا للدولة اللبنانية الرسوم والتكلفة المتفق عليها وكيف تعاطت الوزارة مع هذا الموضوع. وهذا ما يأخذنا إلى الشقّ الثالث المتعلّق بالشفافية والحوكمة الرشيدة. إذ يفترض توضيح كيفية منح الرخصة. وإن كان هناك أكثر من عارض تقدّم لإجراء المسح، فـ"هل مرّت العملية على هيئة الشراء العام، أم فقط قدّمت طلبات التراخيص إلى مجلس الوزراء وهو الذي أخذ القرار، ولماذا لم يُنشر الاتفاق"، تسأل القيسي. "فبحسب القانون 84/ 2018 المتعلق بالشفافية في قطاع النفط والغاز، يجب أن يكون الاتفاق علنيًا وليس سريًا. كما يهمّنا أن تعلن "الطاقة" عن الكلفة المادية لهذا الإتفاق، وما إذا كانت الدولة ستتحمل أيّ أعباء مالية؟ وما الحصّة التي ستدفعها الشركة الماسحة. مع العلم أنّ البيانات تباع بعشرات ملايين الدولارات".  

الشركة تموّل نصف تكلفة المسح 

كل ما استنتجناه من البيان الذي أعقب المؤتمر الصحافي الذي أعلن خلاله وزير الطاقة وليد فياض عن منح TGS ترخيص المسح، أنّ ما يميّز عرض شركة TGS أنّها لا تؤمّن فقط الاستثمارات من الشركات المهتمّة بالبيانات، إنما تلتزم أيضًا تمويل نصف قيمة تكلفة المسوحات وتساعد على تسويق هذه المسوحات"، وهذا يعني أنّ الدولة اللبنانية ستتحمّل نصف الكلفة من دون الإعلان عن قيمتها. ولا النسبة التي ستحصل عليها عند تسويق هذه البيانات بعد الانتهاء منها، وما إذا كانت الشركة ستحتفظ بالبيانات أم الدولة. 

تغييب أصحاب المصلحة عن الملف النفطي 

الأمور لم تقف عند هذا الحد، فالإعلان عن منح ترخيص المسح في البلوك الرقم 8 "كان مفاجئًا"، بحسب المنسّق العام الوطني للتحالف اللبناني للحوكمة الرشيدة في الصناعات الاستخراجية مارون الخولي، "وكان مفترضًا وضعنا في الصورة. وهذا لم يحدث". فنحن "مغيّبون عمّا يجري في هذا الملف، مع العلم أنّ دورنا أساسي ومحوري"، يضيف الخولي. "ووزير الطاقة لم يبادر بعد إلى دعوة "مجلس أصحاب المصلحة"، المنبثق من مبادرة الشفافية، إلى الاجتماع. وذلك بصفته رئيس المجلس بحسب النظام الداخلي. وإن كان من الممكن تبرير هذا الإهمال في الفترة الماضية بسبب الحرب، فلا يمكن التغاضي عنه الآن بعد انتهاء الحرب وعودة النشاط إلى القطاع المتمثّل في منح رخصة للمسح". وتكمن أهمية مجلس أصحاب المصلحة في كونه مشكّلًا من الدولة وشركات التنقيب وتحالف الحوكمة الرشيدة. وهو يمثّل المجتمع المدني، والمعني الرئيس بإرساء قواعد الشفافية في القطاع. و"يجب إطلاعنا، نحن الممثلين عن المجتمع المدني، على الاتفاق الموقّع بكل تفاصيله". 

إنّ عودة الحماوة المتوقعة إلى الملفّ النفطي تستلزم أكبر قدر من الشفافية، ليس رأفة بما تبقّى من ثروات عامّة في هذا البلد هي من حقّ كلّ مواطن. إنّما أيضًا لطمأنة الشركات العالمية والمجتمع الدولي إلى انتظام الأمور. خصوصًا أنّ لبنان مصنّف في المرتبة 200 من أصل 213 دولة على مؤشر الحوكمة الرشيد وعلامته على مؤشر مدركات الفساد 24/ 100.