يُقال إن دورة الأخبار هذه الأيام سريعة جدًا. والبعض يقدّر بأنّها تستمر 60 ثانية فقط. الخبر الذي يتصدّر المتابعة والمشاهدات لا يلبث أن يختفي بعد دقيقة واحدة، ليحلّ مكانه خبر جديد يشغل الرأي العام. وهكذا دواليك. هذه الإحصاءات العالمية تنطبق على لبنان، ليس من حيث الأخبار السريعة فحسب، إنّما الأحداث المفصلية أيضًا. إذ يمكن تقدير سرعة دورانها بين يومين وأسبوع حدًّا أقصى. تَصدر دراسة، تُضيء عليها الصحف والمواقع، تلتقطها التلفزيونات والإذاعات، تكرّرها مواقع التواصل الاجتماعي فتنتهي في غضون أيام من دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال عدم إمكان تكرارها بين فترة وأخرى. ومن هذه الأحداث الانعدام الحاد للأمن الغذائي في لبنان.

تخفي زحمة المدينة، ومشاهد "متسوّقي الفيترينات" في الشوارع التجارية، ومرتادي المطاعم والمقاهي، أزمة فقر وتفاوت عميقة. ومن دون العودة إلى تحليل هذه المشهدية التي كُتب عنها الكثير، فهي لا تعني تمتّع اللبنانيين بالرخاء الاجتماعي ورغد العيش، بل العكس. فإنّ الأكثرية من المقيمين تعاني انعدام الأمن الغذائي. وقد تفاقمت المعدّلات بعد الحرب بشكل كبير نتيجة تراجع المداخيل، وفقدان الوظائف، وضياع الأصول، واحتراق جزء كبير من الأراضي بعد الحرب، وسوء الممارسات الزراعية، وارتفاع تكلفة الانتاج، وشحّ المساعدات.

ربع سكّان لبنان يعانون انعدام الأمن الغذائي

في مؤتمر صحافي عقده في نيويورك قبل أقلّ من اسبوع على وقف إطلاق النار، الشهر الماضي، قال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك إنّ قرابة ربع سكان لبنان "يعانون عدم كفاية استهلاك الغذاء". وبنيت هذه المعلومات على التقرير الخاص للبعثة المشتركة بين منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) بشأن تقييم المحاصيل والأمن الغذائي في لبنان للعام 2024، والذي خلص إلى أنّ نحو ربع سكان لبنان في حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع تأثيرات دائمة على المجتمعات الضعيفة، وخاصة اللاجئين.

في السنوات الأخيرة تقدّم مصطلح "الأمن الغذائي المطلق"، على الأمن الغذائي بمفهومه الواسع. ففي حين يعني الأخير، بحسب تعريف "لجنة الأمن الغذائي العالمي"، "قدرة كلّ شخص جسديًا واقتصاديًا واجتماعيًا على الحصول على تغذية كافية وسليمة ومغذية تمكنه من تلبية حاجاته الغذائية ليعيش حياة سليمة ونشيطة"، يركّز الأمن الغذائي المطلق على قدرة الدولة على انتاج الغذاء على نحو يعادل الطلب المحلّي أو يفوقه، وهذا المستوى مترادف للاكتفاء الذاتي الكامل، ويعرف أيضًا بالأمن الغذائي الذاتي. وقد برزت أهمية الشكل الثاني بروزًا كبيرًا بعد أزمة كورونا وتقطّع سلاسل التوريد. وعمدت مختلف الدول إلى زيادة انتاجها الزارعي وتنويعه، إلّا لبنان الذي فعل العكس.

إنتاج الحبوب يتراجع

تشير توقعات تقرير "الفاو" و"برنامج الغذاء العالمي" إلى انخفاض حادّ سيصيب انتاج الحبوب في لبنان عام 2024: وستأتي النتائج على الشكل التالي:

- انخفاض إنتاج محصول القمح والشعير مجتمعين إلى 113700 طن، بتراجع نسبته 40 في المئة عن المعدل السنوي.

- انخفاض إنتاج البطاطا إلى 610 آلاف طن، بتراجع نسبته 8 في المئة عن المعدل السنوي.

- بقاء إنتاج البقوليات الحبّية منخفضًا بكمية تقديرية تصل إلى 4900 طن فقط.

في المقابل، فإنّ حجم الاستهلاك السنوي المتوقّع من الحبوب والبطاطا يبلغ مليون و480 ألف طن. وعليه، سيحتاج لبنان إلى استيراد 664 ألف طن من القمح، و75 ألف طن من الشعير، و488 ألف طن من الذرة لاستخدامها علفًا، و72 ألف طن من البطاطا. وهذا يعني زيادة في واردات الحبوب بنسبة 3 في المئة قياسًا إلى المعدّل العام في السنوات الخمس الماضية.

مخاطر توسّع فجوة الأمن الذاتي

على أنّ ردم الفجوة الكبيرة في "الأمن الغذائي الذاتي" تتطلب استيرادًا موازيًا من الخارج، مع ما تعنيه هذه العملية من ارتفاع العجز في الميزان التجاري، وزيادة الطلب على النقد الاجنبي "الشحيح أًصلا"، وتاليًا تعريض سعر الصرف للاهتزاز. هذا من الناحية العامة، أمّا من الناحية الخاصّة، فإنّ الأمور تبدو أكثر صعوبة بالنسبة إلى الأفراد، في ظل تراجع المداخيل وارتفاع التكلفة المعيشية. "ففي تموز الماضي وصلت سلّة الإنفاق بالحد الأدنى المطلوب لبقاء أسرة مكوّنة من خمسة أفراد على قيد الحياة، إلى 450 دولارًا، بزيادة نسبتها 190 في المئة منذ آذار 2021"، بحسب التقرير. وهو أدنى تكلفة سُجّلت لهذه السلّة خلال الأزمة. ويعود السبب إلى برنامج الدعم الموسّع الذي اعتمدته الحكومة في تلك الفترة على مختلف السلع الغذائية والمحروقات، وترافق مع انخفاض تكلفة بدل الإيجار والكهرباء المياه والضرائب والرسوم والأقساط المدرسية والجامعية. إلّا أنّ هذه العملية كلّفت الاقتصاد ما لا يقلّ عن 11 مليار دولار سُدّدت من أموال المودعين وعمّقت مشكلة الانهيار.

الخطوات الواجب اتخاذها

هذه التطورات المتسارعة أدّت إلى معاناة حوالى مليون و260 ألف شخص، يشكّلون 23 في المئة من السكان، من انعدام حاد في الأمن الغذائي، بحسب "التصنيف المرحلي المتكامل"، خلال منتصف العام الحالي. ودفعت الأسر إلى إستراتيجيات التأقلم السلبيةـ كتخفيض عدد الوجبات وشراء أغذية منخفضة الجودة. في حين لا يزال النازحون السوريون يعتمدون بشكل كبير على المساعدات الانسانية والعمالة غير الرسمية، ويعيشون غياب استقرار الدخل، مع انعدام أكثر حدّة في الأمن الغذائي بمستويات مرتفعة، معتمدين أيضًا في أغلب الأحيان على آليات تأقلم سلبية.

في حين تتطلب مواجهة هذا الواقع على الأمد القريب زيادة حجم المساعدات النقدية والعينية. فهي تستدعي قيام الدولة اللبنانية بمساعدة الشركاء الدوليين، باجراءات جذرية على المديين المتوسط والبعيد، بالإضافة إلى تطبيق الإصلاحات المطلوبة على الصعيدين العام والخاص. وعلى الدولة "الاهتمام ببناء نظام شبكة أمان اجتماعي"، بحسب التقرير، "وإيجاد أصول زراعية جديدة، وإنعاش الموجودة". فلا يمكن تحقيق الأمن الغذائي في ظلّ الاعتماد الكبير على الاستيراد وإهمال الزراعة الوطنية. وإن كان لبنان عاجزًا عن تأمين كفايته من الغذاء بسبب صغر المساحات وارتفاع تكلفة الانتاج، وطبيعة الاقتصاد، فأقلّ الإيمان العودة إلى المعدّلات العامة والاستفادة من التقنيات الزراعية الحديثة لاستغلال الأراضي، واستيلاد فرص عمل لأبناء الريف والسهول في الجنوب والشمال والبقاع. ويقترح التقرير على سبيل المثال "تقديم المساعدات النقدية كي تصل إلى عدد أكبر من صغار منتجي المحاصيل الزراعية ومربّي الحيوانات. وبالتالي تحسين حصولهم على مستلزمات زراعية ذات جودة عالية (كالأسمدة ومبيدات الآفات والأعلاف والبذور والخدمات البيطرية). هذا بالإضافة إلى ضرورة تنمية القدرات والتشجيع على العمل التعاوني". كما يدعو التقرير المزارعين إلى "تصويب الممارسات الزراعية غير السوية للمحافظة على سلامة الغذاء، وذلك من خلال تقليل الاعتماد على الاستخدام المفرط للمبيدات والأسمدة"، الذي ينشر الأمراض داخليًا ويقلل من فرص تصدير المنتجات الزراعية. وأخيرًا تعزيز دور المؤسسات المعنية لتنفيذ قانون سلامة الأغذية.

وبسبب دوره الكبير إنسانيًا واقتصاديًا واجتماعيًا يفترض بالأمن الغذائي أن يبقى متصدّرًا أكثر الأحداث أهمّية إلى حين البدء بمعالجته والتخفيف من حدته.