يترقّب الاقتصاد اللبناني مآل التطوّرات السياسية والأمنية عند جارته سوريا، بحذر شديد. فانطلاقًا من المثل القائل "إذا جارك بخير، أنتَ بخير" تأمل قطاعات الأعمال المحلّية على مختلف تلاوينها الانتاجية، والخدماتية، والنقدية، والمالية، استقرار الأوضاع في سوريا لما سيحمله من نتائج إيجابية إلى البلدين. وكان لبنان قد شهد خلال العقد المنصرم، بالأرقام والوقائع، التداعيات الكبيرة للأزمة في سوريا على اقتصاده. فزاد العجز في ميزان المدفوعات، وتراجع تدفق الاستثمارات، وانخفض قدوم السياح، وتوقّفت مشاريع الوصل الكهربائي، وزاد الضغط على سعر الصرف، وتفاقم التهريب الجمركي، وارتفعت تكلفة التصدير، وناء الاقتصاد تحت حمل النازحين.
بالنّسبة إلى لبنان، ليست سوريا الجارة الوحيدة فحسب، بل هي المنفذ البري الوحيد الذي يربط لبنان بالعالم الخارجي، ومصدر للعمالة الرخيصة في الحقلين العمراني والزراعي، وسوق للاستيراد والتصدير، ومحطّة وصل طاقوية مع البلدان المنتجة للكهرباء، ومصدر للرساميل الكبيرة الموظفة في المشاريع بشكل مباشر، أو المودعة في المصارف. وتَبدُّل المشهد السياسي جذريًا في سوريا سيترك انعكاسات إيجابية وسلبية على الاقتصاد اللبناني في حالتي الفوضى والاستقرار. ولو أنّ الإيجابيات ستكون، بطبيعة الحال، أكبر بما لا يقاس في الحالة الثانية.
حالة الاستقرار في سوريا
في حالة الاستقرار، سيشهد الاقتصاد السوري فورة استثمارات في القطاع العمراني والنفطي والصناعي والزراعي. ارتفاع التوظيفات في إعادة إعمار البنى التحتية والمساكن الخاصّة والمقارّ العامّة وحدها، من شأنه أن يؤدّي إلى تدفّق مئات مليارات الدولارت إلى سوريا ويشغّل بقية القطاعات. إذ كما يقال ( Quand le bâtiment va, tout va ) ، بما يعني أهمية قطاع البناء كمحرّك رئيسي للنمو. وسيؤدّي رفع عقوبات "قيصر" و"ماغنيتسكي" إلى عودة النشاط إلى القطاع النفطي، الذي تراجع انتاجه من 400 ألف برميل يوميًا قبل العام 2011 إلى أقلّ من 15 ألفًا في الوقت الحالي. ويعود الزخم إلى القطاع الزراعي الذي كان يشغّل 5 ملايين شخص، وتكسر الرساميل الصناعية، ولا سيما الحلبية منها، "غربتها" وتعود إلى الوطن. هذه الأحداث المفترضة من شأنها أن تريح لبنان اقتصاديًا للأسباب التالية:
- سيشكّل لبنان محطّة تمركز وانطلاق للعديد من الشركات الأجنبية التي ستعمل في سوريا. ومن غير المستبعد أن يعاد فتح مطار القليعات، وتنشيط مرفأ طرابلس بوصفهما المرفقين الأقرب إلى سوريا، وتفعيل المنطقة الخاصة في الشمال. مع ما سيحمله هذا الأمر من استيلاد فرص عمل وازدهار المناطق تجاريًا وسياحيًا وإنمائيًا.
- سيؤدّي رفع العقوبات إلى إمكان استفادة لبنان من استجرار الكهرباء الأردنية بمعدل لا يقلّ عن 300 ميغاواط والغاز المصري لتشغيل معمل دير عمار ذي القدرة الانتاجية التي تصل إلى 500 ميغاواط. وبالتالي، سيوفّر لبنان 800 ميغاواط من الكهرباء، تشكّل حوالى 25 في المئة من حاجته وبكلفة زهيدة.
- سيتخفّف لبنان من عبء قرابة مليوني نازح سوري، الذين تقدّر بعض الجهات كلفتهم على الاقتصاد بنحو 6.6 مليار دولار سنوياً حدًّا أقصى. ولا تقل هذه التكلفة عن 3 مليارات في أحسن السيناريوهات.
- ستتراجع كلفة عبور شاحنات التصدير اللبنانية عبر سوريا. وكانت هذه الكلفة قد ارتفعت في الأعوام الستة الأخيرة من حوالى 50 دولارًا إلى 5000 دولار، قبل أن تخفض هذا العام إلى 2500 دولار. بعض هذه الرسوم أضيفت بشكل رسمي لتمويل نفقات الحرب، وبعضها الآخر كان عبارة عن خوات. هذا عدا المخاطر الأمنية التي كانت مصاحبة للعملية. الأمر الذي أدّى إلى تراجع دراماتيكي بحوالى الثلث للصادرات إلى سوريا، ومنها إلى بقية الدول العربية. وستؤدّي هذه التكاليف إلى ارتفاع أسعار المنتجات اللبنانية أكثر ممّا هي عليه، وفقدانها القدرة التنافسية في الأسواق العربية، وخصوصًا مع المنتجات التركية.
- سينخفض التهريب الجمركي للبضائع السورية التي تُغرق الأسواق اللبنانية وتنافس المنتجات المحلية.
- سيخفّ الضغط على سعر الصرف. إذ يشكّل طلب السوريين الكبير على الدولار، أفرادًا وتجارًا وجماعات، سببًا إضافيًا لارتفاع سعره مقابل العملة الوطنية. إذ يحوّل السوريون العاملون في لبنان كلّ ما يتقاضونه إلى الدولار. وكان العابرون إلى سوريا ملزمين بتصريف 100 دولار على المعابر بسعر الصرف الرسمي. هذا عدا الحوالات بالدولار من لبنان إلى سوريا، وقد قدّرت بحوالى 6 ملايين يوميًّا من 300 ألف عامل سوري.
- انخفاض نسبة البطالة نتيجة عودة العمالة السورية إلى بلدها للعمل في المجالات المتنوعة الزراعية والعمرانية...
- توقّع عودة دول خليجية إلى استقبال البضائع اللبنانية بسبب القضاء على تجارة الكبتاغون وتهريبه عبر لبنان.
هذه الإيجابيات لا تنفي وجود بعض النواحي السلبية، أهمها:
- ارتفاع كلفة اليد العاملة في لبنان نتيجة خروج جزء من العمالة السورية، الأمر الذي سيرفع كلفة الانتاج في الزراعة والصناعة والبناء بشكل كبير، ويقوّض قدرة المنتجات اللبنانية على التصدير والمنافسة في الأسواق العالمية.
- خروج العديد من الاستثمارات الشرعية وغير الشرعية. ولا سيما في القطاع الصناعي والخدماتي.
- تراجع الاستهلاك الداخلي، وخصوصًا في القطاعات الغذائية. وهذا ما سيجبر المؤسسات الانتاجية، مثل الأفران ومعامل المواد الغذائية والتجار والمستوردين، على تصغير حجم أعمالهم. مع ما قد يرافق هذه الخطوة من صرف للموظفين وانكماش إضافي في الاقتصاد.
تراجع حركة الخارجين عبر مطار رفيق الحريري الدولي، لكون جزء كبير من السوريين يصلون إلى وجهاتهم عبر لبنان. الأمر الذي يعني تراجع الإيرادات وعوائد الدولة خصوصًا أنّ هناك رسمًا على الخروج يراوح بين 35 و60 دولارًا على كلّ مسافر لمصلحة الخزينة.
حالة الفوضى
من الناحية الثانية، فإنّ افتراض حدوث مشكلات وانقسامات في سوريا، سيحمل نتائج بالغة السلبية إلى الاقتصاد. فطرق التصدير البري قد تنقطع كلّياً، أو تزيد كلفتها أضعافاً مضاعفة نتيجة المخاطر الأمنية واضطرار المصدّرين إلى دفع الرشى لتمرير البضائع. كما سيزيد عدد النازحين الهاربين من المشكلات، وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع الأسعار. وهي الظاهرة التي بدأت معالمها بالتفاقم مع سقوط النظام إذ تراجع سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار إلى أكثر من 25 الفاً، وارتفعت الأسعار نتيجة الاحتكار ونقص البضائع. ولن يستطيع لبنان تمرير الكهرباء والغاز من مصر والأردن، وسيؤدّي تفاقم المشكلات النقدية إلى زيادة الضغط على سعر الصرف محليًا. وسيتراجع التصدير إلى سوريا، بعدما كان يصل حجمه قبل تفاقم الأحداث إلى 250 مليون دولار سنويًا. سيترافق ذلك كلّه مع ضغط سكاني إضافي يتزامن مع تراجع المساعدات التنموية من الدول والمؤسسات الأممية، ورزوح لبنان تحت أثقال الخروج من الحرب والانهيار الاقتصادي.
الرهان الوحيد هو على المقبل من الأيام، فإمّا استقرار في سوريا ولبنان تتبعه ورشة إعمار ونمو وازدهار في البلدين. وإمّا فوضى، ستكون نتيجتها أخطر بما لا يقاس. خصوصًا إذا تطورت إلى توترات أمنية في لبنان بين المكونات السورية وبعض الفئات اللبنانية.