نصّت السياسات النقدية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى الساعة على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي كنتيجة حتمية لغياب – أو أقلّه ضعف – السياسات المالية للحكومات المُتعاقبة وغياب الاستقرار السياسي.
استخدم المصرف المركزي منذ ذلك الوقت إلى العام 2019، عمليات السوق المفتوحة، والتدخّل في سوق الصرف الآجل، والعمليات المباشرة في الأصول الأجنبية للدفاع عن سعر الصرف الثابت، ووسّع أدواته لتشمل أدوات أخرى مثل تغييرات متطلّبات احتياطي المصارف. وبما أنّ هذه السياسة النقدية خاضعة لقيود مالية ونقدية، وبما أنّ الاستقرار المالي والسياسي كان غائبًا طوال مدّة تثبيت سعر الصرّف (بالتحديد من 1997 إلى 2019)، استُنزفت احتياطات المصرف المركزي وباتت الحكومة عاجزة عن الاقتراض بحكم تخلّفها عن دفع ديونها، وتفلّت سعر صرف الليرة ما بين العام 2019 والربع الأول من العام 2023 لتُسحب لاحقًا الليرة من التداول الفعّلي وتحل الدولرة محلّها.
حاولت الحكومة والمصرف المركزي، خلال فترة تفلّت سعر الصرف، الانفاق من عدةّ مصادر، منها احتياطات المركزي، وحقوق السحب الخاصة، ورصيدها الموجود في حساب 36 في مصرف لبنان، واستنزفتها جميعها من دون أن تواكب ذلك أيّة إصلاحات تسمح بإعادة انتظام العمل المالي واستقرار الإنفاق المتزايد بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي، بعد هبوط مدوّ في العاميْن 2020 و2021.
الحقيقة المرّة من كلّ ما تقدّم – ليست في تثبيت سعر صرف العملة الذي مكّن كلّ اللبنانيين من الاستفادة من الاستقرار النقدي طوال فترة التثبيت – أنّه لم تُتخذ أيّة إجراءات للحفاظ على الاستقرار النقدي في حده الأدنى. أكثر من ذلك، استطاع المضاربون من تجّار ورجال أعمال، تحت حمايات سياسية، من الاستحواذ على مخزون الدولة والمصرف المركزي من العملة الصعبة، من خلال عمليات تجارية بحتة تمثّلت أحيانًا في سياسة الدعم، وأحيانًا أخرى في تأمين الدولارات على أسعار لا تعكس لا قوة الاقتصاد اللبناني ولا النشاط الاقتصادي الحقيقي.
هذا السيناريو المُتشائم الذي فصّلناه، يُمكن تفاديه من خلال الانصياع للرغبة الدولية من باب إجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة وإعادة تكوين السلطة التنفيذية
المرحلة المقبلة ليست بواعدة إذا ما اعتبرنا أنّ الظروف السياسية والاقتصادية ستبقى على حالها (لا تكوين للسلطة الإجرائية ولا إصلاحات اقتصادية). فمنذ العام 2022 إلى مُنتصف العام الحالي، كان قسم كبير من الكتلة النقدية بالدولار الأميركي الموجودة في السوق، يأتي من نشاطات غير رسمية أدّت إلى وضع لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية. وهو ما يعني تشديد الرقابة على حركة الدولارات من لبنان وإليه، عنيت بذلك الحركة الرسمية للدولارات. في الوقت نفسه تقهقرت حركة الدولارات الناتجة من النشاطات غير الرسمية بحكم الحصار القائم على لبنان من إقفال حدود برّية وبحرية وجويّة، والتضييق المالي من خلال إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. وهو ما يعني أنّ الكتلة النقدية بالدولار الأميركي الموجودة في السوق اللبنانية بدأت بالانكماش على ما تُظهره بعض المؤشرات النقدية (مثل احتياطات مصرف لبنان من العملة الصعبة) والسياسية (مثل الحصار القائم). وهو ما يعني استطرادًا بدء المخاطر على سعر الصرف الذي استطاع المركزي، منذ آذار العام 2023 إلى اليوم، الحفاظ على سعره من باب الدولرة وامتصاص الليرة من السوق.
في تفاصيل المرحلة المقبلة، وعلى افتراض أنّ الوضع استمرّ على ما هو عليه، ستكون هناك عودة إلى استخدام الليرة وستبدأ معالمها من عدم قدرة المركزي على الاستمرار في شراء الدولار من السوق لمصلحة الحكومة، وهو ما سيؤدّي إلى ارتفاع سعر صرف الدولار مُقابل الليرة في سيناريو قد يكون كارثيًا إذا لم يؤمّن مصرف لبنان هبوطًا آمنًا لليرة مُقابل الدولار.
كذلك سيُترجم الوضع بعدم قدرة بعض أرباب العمل على دفع كلّ الراتب بالدولار الأميركي أو جزء منه، وهو ما يعني بدء ارتفاع الأسعار، واستطرادًا انخفاض الاستيراد الذي كان يذهب جزء منه إلى سوريا. وهنا يبرز سيناريو آخر يتمثّل في رفع العقوبات عن سوريا وعودة الحياة إلى طبيعتها، ممّا يعني بدء تدفق الدولارات إلى سوريا سواء كان بهدف الإعمار أو الاستثمار أو من خلال المُساعدات الأممية. في ظلّ هذا السيناريو، سيتمّ الاستغناء كليًّا عن لبنان خصوصًا إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه على الساحة اللبنانية، واستمرّ إقفال الحدود ومراقبتها بشكلٍ جدّي كما يحصل الآن. وسيكون هناك انخفاض حاد في الاستيراد اللبناني سيُترجم بتراجع في وجود السلع في السوق وارتفاع أسعارها، وهو ما سيؤدّي إلى تآكل حاد في الأموال الموجودة في المنازل، والتي ستنخفض، بحسب تقديراتنا، من نحو عشرة مليارات دولار حاليًا إلى أقلّ من خمسة في نهاية العام المُقبل.
هذا السيناريو المُتشائم الذي فصّلناه، يُمكن تفاديه من خلال الانصياع للرغبة الدولية من باب إجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة وإعادة تكوين السلطة التنفيذية – رئيس جمهورية وحكومة أصيلة – القادرة على عزل لبنان عن الصراعات الإقليمية، وإجراء التعيينات القضائية والمالية والإدارية ومحاربة الفساد بشكلٍ يسمح للمُجتمع الدولي باستعادة الثقة بلبنان وضخّ دولارات بهدف الاستثمار أو المساعدات أو الهبات والقروض التي غابت منذ فترة طويلة نتيجة العبث بالمال العام وإهداره.
في هذه الحال سيكون هناك هبوط ناعم "soft" لمستوى معيشة اللبنانيين يعكس حقيقة الإنتاج الاقتصادي، قبل أن يُعاود الصعود نتيجة الاستثمارات والنشاط الاقتصادي المُتوقّع – في حال تنفيذ ما هو مطلوب – خصوصًا أنّ إعادة إعمار سوريا أصبحت قريبة في ظلّ التطورات السياسية الأخيرة.