بسرعة غير معهودة وبدون قتال حقيقي، انضمت محافظتا حلب وحماه إلى محافظة إدلب تحت سيطرة تحالف الفصائل المسلحة السورية المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام ومشاركة فصيل الجيش الوطني السوري الذي ترعاه تركيا تمويلا وتدريبا وتجهيزا، وعمادُهُ التركمان السوريون. وبسرعة أيضاً تحركت فصائل أخرى من المعارضة السورية المسلحة في محافظات حمص والسويداء ودرعا واستغلت انسحاب وحدات الجيش السوري المقاتلة من مواقعها لتعيد تمركزها في قوس دفاعي عن دمشق. هذه الفصائل أعلنت سيطرتها على نقاط عسكرية كانت في يد الجيش السوري.
لهذه المعارك المندلعة في سوريا منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان تداعيات كبيرة على الداخل السوري وعلى الاستقرار الإقليمي، وتُعطي الشرقَ الأوسط شكلاً جديدا، خصوصا إذا طال النزاع وابتعد الحل. فالوضع العسكري معقّد يشارك فيه العديد من الدول الفاعلة مباشرة أو بواسطة وكلاء محليين، ولكلّ منها مصالحه المتباينة.
الوضع العسكري
لا يزال من المبكر الحديث عما سترسو عليه التطورات العسكرية في ظل سيطرة المعارضة المسلحة على محافظات إدلب وحلب وحماه ووصولها إلى مشارف مدينة حمص، رغم الضربات التي ينفذها سلاح الجو السوري. بهذه السيطرة تكون المعارضة السورية المسلحة قد وسّعت نطاق سيطرتها الجغرافي وشكّلت ضغطاً على ما تسمّيه الحكومة السورية "سوريا المفيدة" وهدّدت عقدة المواصلات البرية بين العاصمة وسائر المناطق السورية وضيّقت الطوق على منطقة الساحل وهي المنطقة الاستراتيجية الشديدة الأهمية للحكومة السورية.
قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني الذي خلع عنه اسمه الحركي وثوب المتطرف الإسلامي وعرّف عن نفسه باسمه الحقيقي أحمد الشرع، أفصح عن هدف حملته العسكرية ضد الحكومة السورية قائلاً لشبكةCNN الأميركية إن هدفه "إطاحة نظام بشار الأسد." هذا في المحصّلة النهائية. ولكن ماذا في الأيام القليلة المقبلة في أعقاب هذا التقدّم السريع؟ هل سيكتفي الشرع بالرقعة الجغرافية التي استولى عليها حتى الآن؟ هل سيزيد الضغط ويحاول فصل دمشق وريفها وحمص عن الساحل؟ هل سيواصل التقدّم نحو دمشق وهو يعرف أنه سيجد في طريقه مجموعات قتالية من حزب الله والحرس الثوري الإيراني في منطقة القصير القريبة من الحدود مع لبنان؟
وهل يسمح الواقع الدولي الآن بخلق كل هذه الفوضى والفراغ في سوريا؟
ينتشر الآن في سوريا عدد من القوات العسكرية الأجنبية سواء بطلب من الحكومة أو رغما عنها.
نبدأ بالانتشار العسكري التركي الذي تحقق على مرحلتين وخلق شريطا حدوديا هدفه كما قالت السلطات التركية حماية الأراضي التركية من الهجمات الكردية. والواضح أن الوجود العسكري التركي في شمال سوريا هو الأقوى ولم يخفِ الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان أنه يؤيّد هذه الحملة العسكرية لأن الرئيس السوري بشار الأسد رفض اليد التي مدّها له لإيجاد حل للأزمة السورية.
وقد دخلت القوات التركية سوريا بعد دخول القوات الإيرانية والروسية ومقاتلي حزب الله الذين استعانت بهم الحكومة السورية. ويدين الأسد لروسيا وايران وحزب الله ببقائه في الحكم.
أما القوات الأميركية فانتشرت في مناطق الأكراد وعلى الحدود الأردنية السورية ضمن إطار مهمتها الأساسية، أي مكافحة الإرهاب.
ما جرى ميدانيا أن أعدادا كبيرة من الجنود السوريين انسحبت تاركة معدّاتها والذخيرة. وأخلت القوات الروسية مراكزها في المواقع التي كانت منتشرة بها خصوصا في حلب وحماه. وانسحبت قوات سوريا الديمقراطية (الكرد) إلى محافظة دير الزور وأحكمت سيطرتها على المعابر الحدودية هناك مع العراق. وحين سئل الروس عن (غياب) دورهم في وقف تقدّم المعارضة السورية عبّر بعض قادتهم الميدانيين عن مفاجأتهم من سهولة انسحاب الجيش السوري بدون قتال في أحيان كثيرة، مؤكّدين أن مسؤولية القوات الروسية هي مساندة القوات السورية وليس القتال بدلاً عنها.
تأثير في العلاقات الدولية
إذا كانت دورة العنف الحالية في سوريا نتيجة اتفاق غير معلن بين الجهات الأجنبية المتدخلة في الصراع السوري فسيكون الوضع محسوبا ومحدود الخسائر. الفرضية المقابلة هي أن تركيا استغلت رغبة الولايات المتحدة في سحب قواتها من أماكن النزاع وانشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا وتعب إيران من الضربات الإسرائيلية على أراضيها وفي لبنان.
السؤال المطروح: هل تحرّكت تركيا بمفردها لضمان مصالحها بدون تشاور مع الدول الأخرى المعنية وإلى أي حدّ يمكنها أن تستمر في تحريك خيوط العملية قبل أن تشعر الدول الأخرى بالخطر على مصالحها؟
أعلن لبنان إغلاق حدوده الشمالية مع سوريا وشدّد ترتيباته العسكرية والأمنية.
الأزمتان الإنسانية والاقتصادية وتدفق اللاجئين
من أكثر العواقب المباشرة لاستمرار العنف في سوريا تفاقم الأزمة الإنسانية. فمع تصاعد القتال سيزداد عدد النازحين، وهو ما يعيد وضع ضغط هائل على الدول المجاورة مثل تركيا ولبنان والأردن التي تواجه جميعا بالفعل صعوبة في استيعاب ملايين اللاجئين السوريين، فيما يزداد الضغط على مواردها. وسيزداد التوتر بين السكان المحليين واللاجئين الذين يرفض عدد كبير منهم العودة إلى بلادهم. يمكن أن يؤدي تدفق جديد للاجئين إلى تنافس على الوظائف والإسكان والخدمات العامة، ويسبّب اضطرابات اجتماعية وزيادة كراهية الأجانب داخل الدول المضيفة.
وتحسبا لمثل هذا الاحتمال، أعلن لبنان إغلاق حدوده الشمالية مع سوريا وشدّد ترتيباته العسكرية والأمنية.
في مطلق الأحوال يبدو أنّ مصير النظام في سوريا قد كتب، رغم أن القوى المقاتلة في الجيش السوري تتجمع في خطوط دفاعية لحماية العاصمة دمشق. ويبدو أيضاً أنّ وتر القوس الإيراني قد انقطع وأن المعارك الحالية لن تتوقف إلا بانحسار رقعة نفوذ الحكومة الحالية وبحل سياسي يراعي المصالح الحيوية لكل المكوّنات والمناطق السورية. هذا القتال مرشّح لأن يطول وأن يمتدّ إلى مناطق أخرى. في نهاية المطاف، سيُجبَر الرئيس بشار الأسد – إن بقي في السلطة – على المشاركة في العملية السياسية . ويتذكّر جميعنا ما نُقِل قبل عقود مضت عن نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام الذي تسلّم الملف اللبناني لفترة طويلة، حين قيل له إن مسؤولاً لبنانيا قد لا يسير في قرار كبير تم اتخاذه فقال: "أو بيمشي أو بيمشي."