صرّح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأنّه سيطلب من الدول التي تشكّل جزءًا من مجموعة البريكس – وهي البرازيل والهند والصين وروسيا وجنوب أفريقيا بالإضافة إلى إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإثيوبيا ومصر – الالتزام بعدم إنشاء عملة جديدة أو مواجهة تعريفات جمركية بنسبة 100٪ خلال ولايته التي تبدأ في 20 كانون الثاني من العام 2025.

لكن كيف لترامب أن يُطلق مثل هذا التهديد؟ وماذا يمتلك من أدوات بين يديه لفرض فوقية الدولار؟

يعود اقتراح إنشاء عملة منافسة للدولار الأميركي في التجارة الدولية إلى الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا الذي اقترح إنشاء عملة مشتركة في أميركا الجنوبية للحدّ من الاعتماد على الدولار الأميركي. ودعمت هذه الفكرة العقوباتُ الاقتصادية التي تفرضها الولايات المُتحدة الأميركية على خلفية الصراعات الجيوسياسية في العالم (روسيا وإيران أنموذجيْن). وبالتالي، فإنّ وجود مثل هذه العملة يسمح لهذه الدول بالالتفاف على عقوبات واشنطن.

يعود اقتراح إنشاء عملة منافسة للدولار الأميركي في التجارة الدولية إلى الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا 

التحليل الذي سيلي يُظهر أنّ فرص نجاح العملة الجديدة ضئيلة نتيجة عِدّة عوامل، منها الاختلافات الاقتصادية والجيوسياسية لمجموعة البريكس، ولكن أيضًا وزن الولايات المُتحدّة الاقتصادي ودور الدولار المُهيمن في كلّ القطاعات الاقتصادية والمالية.

دور مُهيمن للدولار الأميركي

يُعتبر الدولار الأميركي العملة الأساسية في العالم بحكم عمق التغلغل في الاقتصاد العالمي من حيث لعبه دورًا أساسيًا في التجارة العالمية ولكن أيضًا في التمويل والإحتياطات النقدية:

أولًا – الدولار عملة الاحتياطات النقدية: يُشكّل الدولار الأميركي نسبة تُقارب الستين بالمئة من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي في العالم، وهو ما يجعله أكثر العملات استخدامًا في هذه الاحتياطيات. وينبع هذا الأمر من دوره التاريخي منذ زمن اتفاقات برينتون وود إلى ما بعد فكّ الارتباط بينه وبين الذهب في سبعينيات القرن الماضي، إذ وفّر استقرارًا وسيولة جعلت منه ملاذًا آمنًا.

ثانيًا – التجارة العالمية: يُستخدم الدولار الأميركي في تقويم مُعظم السلع الأساسية في العالم، وعلى رأسها النفط الذي يُعتبر الأول من حيث الحجم والقيمة. وقد كوّن نظام "البترودولار" ربطًا واضحًا لسعر النفط بالدولار الأميركي. ومن السلع الأساسية يُمكن أيضًا ذكر الذهب والمنتجات الزراعية والمواد الأوّلية الصناعية وغيرها. وبالتالي، تعمد مُعظم دول العالم إلى تقويم صادراتها ووارداتها بالدولار الأميركي بغضّ النظر عن الطرف الآخر في العملية، إذ يُشكّل هذا الأمر ضمانة في ما يخص الاستقرار في قيمة التبادل التجاري.

ثالثًا – الاستدانة والتمويل: تُشير البيانات المالية الدولية إلى أنّ أكثر من خمسين بالمئة من إجمالي قيمة السندات العالمية مقوّمة بالدولار الأميركي، وتشمل السندات الحكومية والشركات والمؤسسات الأميركية والدول الأخرى، وهو ما يجعل الاستقرار الاقتصادي للعديد من الدول النامية والناشئة مُرتبطًا بشكل وثيق بقوة الدولار الأميركي.

رابعًا – ربط العملات بالدولار: أكثر من 65 دولة في العالم تعتمد دولرة اقتصادها جزئيًّا أو كلّيًّا، منها خمس دول تعتمد الدولار الأميركي اعتمادًا كاملًا. والعديد من هذه الدول ربط بشكل تقني عملته بالدولار الأميركي على مثال دول الشرق الأوسط ودول البحر الكاريبي بهدف تعزيز استقرارها النقدي، وتفادي التطوّرات النقدية السلبية التي قد تستولد إطارًا خارجًا عن السيطرة.

خامسًا – أسواق العملات: بحسب البيانات من أسواق العملات العالمية، فإنّ 88% من إجمالي معاملاتها يدخل فيها الدولار الأميركي (2022). عدا أنّه يُستخدم بالدرجة الأولى عملة وسيطة بين العملات الأخرى.

سادسًا – النظام المالي العالمي: يتمحور النظام المالي العالمي حول الدولار الأميركي. إذ هناك مركزية قوية تتمثّل في مؤسسات أميركية وأسواق مالية أميركية أساسية في التبادل التجاري العالمي والتعاملات المالية، مثل نظام سويفت الذي تعتمده أكثر من 11 ألف مؤسسة مالية في العالم. أضف إلى ذلك حجم الاستثمارات الأجنبية في سندات الخزانة الأميركية، الذي أصبح عنصرًا من عناصر الاستقرار المالي العالمي ويدفع دولًا عدة إلى المحافظة على قوّة الدولار الأميركي.

سابعًا – لا بدائل حتى الساعة: أظهر التاريخ أنّ كلّ مُحاولات تخطّي الدولار الأميركي من العملات التقليدية وصولًا إلى العملات الرقمية ومرورًا بنظام التروك، باءت بالفشل إلى اليوم.

أسباب هذه الهيمنة تأتي من باب الثقة والاستقرار في النظام السياسي والاقتصادي الأميركي الذي يتمتّع بسيادة القانون ومرونة اقتصادية عالية جدًا تجعل منه مثالًا للعديد من الدول. زدْ على ذلك قوة الاقتصاد الأميركي التي تنعكس على الدولار لأنّ العملة تعكس ثروة البلد، وهذا ما جعل من الدولار الأميركي يخرق عميقًا الأسواق العالمية مع سهولة تداول تفوق السهولة في التداول بالعملة المحليّة في بعض الدول. طبعًا، هناك مخاطر قد تنجم عن الاعتماد على الدولار الأميركي، منها تقلّبات السياسة النقدية الأميركية، ونقص الدولار في الأزمات العالمية... لكن على الرغم من كلّ هذا، يبقى الدولار العمود الفقري للاقتصاد العالمي.

التأثير العالمي للاقتصاد الأميركي

على أن هيمنة الدولار الأميركي العالمية وحجم الاقتصاد الأميركي الذي يُشكّل أكثر من ربع الاقتصاد العالمي، جعلا من الولايات المُتحدة الأميركية لاعبًا أساسيًا في تحديد مصير هذا الاقتصاد. فمن خلال سياساتها المالية والنقدية والتجارية، يمكن الولايات المتحدة تحفيز الاقتصاد العالمي أو زعزعته، وهو ما يجعل قرارات الحكومة الأميركية حاسمة لاستقراره:

أولًا – السياسة النقدية: تُشكّل قرارات البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة أو خفضها، سببًا في رفع تكاليف الاستدانة عالميًا أو خفضها. كذلك تُشكّل سياسة التيسير الكمّي أو التشديد الكمّي ضخًّا للسيولة أو امتصاصًا لها في الأسواق العالمية على مثال ما حصل في ثمانينيات القرن الماضي (صدمة فولكر) إذ رُفعت أسعار الفائدة لمكافحة التضخّم، فأدّى ذلك إلى أزمات ديون في العديد من الدول النامية.

ثانيًا – السياسة المالية: يُشكّل الإنفاق الحكومي، على مثال ما حصل في الأزمة المالية العالمية في العام 2008 أو خلال جائحة كورونا، عنصرًا مهمًا في تحديد نسبة التضخم في العالم، ومن ثمّ ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا. كذلك هنالك للسياسات الضريبية في الولايات المُتحدة الأميركية دور في تحديد سياسات الشركات العالمية في مجال الاستثمار.

ثالثًا – السياسات التجارية: تُشكّل الرسوم الجمركية والعقوبات عنصرًا أساسيًا في تحفيز التجارة العالمية أو إعاقتها، وهو ما يؤثّر على سلسلة الإمدادات العالمية (مسألة الحبوب في بداية الحرب الروسية – الأوكرانية). كما للعقوبات دور كبير في منع وصول بعض الدول إلى النظام المالي العالمي الذي تُسيطر عليه الولايات المُتحدة الأميركية من باب هيمنة دولارها، وقد تتسبّب أيضًا في أزمة سيولة في الاقتصادات التي تعتمد الدولار الأميركي. وكذلك يُمكن القول إنّ للولايات المُتحدة الأميركية دورًا محوريًا في نجاح الاتفاقات التجارية الكبرى أو فشلها.

رابعًا –التشريعات الأميركية: للقوانين الأميركية دور كبير في التأثير على النظام المالي العالمي من باب التزام المصارف والمؤسسات العالمية، وحتى الشركات التجارية، هذه القوانين تحت طائلة منعها من الولوج إلى السوق الأميركية التي تُعتبر الأضخم عالميًا من حيث الاستهلاك.

خامسًا – النفوذ الجيوسياسي الأميركي: الذي يؤثر مباشرةً على أسواق السلع الأساسية مثل النفط. أضف إلى ذلك النفوذ الأميركي في المؤسسات العالمية من مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات التي لها تداعيات على الاقتصاد العالمي.

أدوات فتّاكة لدى ترامب

من كل ما تقدّم، يتبدّى أنّ لدى الرئيس الأميركي أسلحة فتّاكة تجعله قادرًا على تنفيذ تهديده في وقت يواجه الاقتصاد العالمي أزمات عدّة، منها ما هو جيوسياسي، وما هو اقتصادي بحت. وعندما يقول ترامب "نحن نطلب التزامًا من هذه الدول بأنّها لن تنشئ عملة جديدة لمجموعة البريكس، وبأنها لن تدعم أيّ عملة أخرى لتحل محلّ الدولار الأمريكي العظيم، وإلّا فإنّها ستواجه تعريفات جمركية بنسبة 100٪. ويجب أن تتوقع وداعًا للبيع في الاقتصاد الأميركي الرائع"، فهو قادر فعلًا على حرمان هذه الدول من الولوج إلى السوق الأميركية التي تُعدّ الأكثر استهلاكًا في العالم نتيجة القدرة الشرائية لحوالى 380 مليون شخص، ناهيك بالعقوبات التي قد يفرضها على بعض الدول، وهذا ما يؤدّي إلى زعزعة اقتصاداتها ومنعها من الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية المُهيمنة على العالم الحديث.