أيّ حرب، مهما طالت، لا بدّ أن تنتهي بوقف إطلاق النار، وأن "تقرّش" بالسياسة. هذا هو مصير الحرب التي يشهدها لبنان، فإن نجح وقف إطلاق النار المطروح اليوم بناء على مسوّدة هوكستين – ديرمر (المبعوث الأميركي آموس هوكستين ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر) أو أخفق، لا بد أن تأتي الساعة وتخرس لغة الحديد والنار ونكون أمام اليوم التالي للحرب وبدء مرحلة جديدة تطوي مرحلة ما قبل 7 تشرين الأول 2023 .

لقد أثبت التاريخ أنّ أُفول كلّ مرحلة يترافق مع تواري سردياتها ومصطلحاتها، كما جرى مع الحقبة السورية في لبنان حيث شهد 26 نيسان 2005 جلاء مصطلحات كـ"شعب واحد في بلدين" و"وحدة المسار والمصير" و"الانصهار الوطني" من القاموس السياسي اللبناني. لذا في ظلّ الإجماع اللبناني أنّ اليوم التالي للحرب سيحمل مرحلة جديدة على أنقاض مرحلة ما قبل 7 تشرين الأول، لا بدّ لسرديات تلك الحقبة ومصطلحاتها كثلاثية "جيش – شعب – مقاومة" أو "الإستراتيجية الدفاعية" أو "معادلة الردع" أن تلقى المصير الحتمي وفق المسار التاريخي.

لقد أثبت التاريخ أنّ أُفول كلّ مرحلة يترافق مع تواري سردياتها ومصطلحاتها، كما جرى مع الحقبة السورية في لبنان حيث شهد 26 نيسان 2005 جلاء مصطلحات كـ"شعب واحد في بلدين" و"وحدة المسار والمصير" و"الانصهار الوطني" من القاموس السياسي اللبناني.

إلّا أنّ "الحزب" يبدو مصرًّا على السير عكس هذا المسار والتمسّك بسردياته ومصطلحاته رغم "زلزال" 7 تشرين الأول وتداعياته. فأطلّ رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد بمقال في 26/11/2024 تحت عنوان "عَودٌ على بدء - ضمانة حفظ السيادة: معادلة الشعب والجيش والمُقاومة" يخلص فيه إلى أنّ الضمانة المُثلى لالتزام إسرائيل بمُوجبات القرار 1701 "في المُعادلة نفسها التي أرغمت العدوّ مُجددًا على وقف عدوانه وتيئيسه من إمكانية إخضاع إرادة اللبنانيين وانتهاك سيادة بلدهم. إنّها مُعادلة الشعب والجيش والمُقاومة".

فيما أكّد الأمين العام الجديد لـ"الحزب" الشيخ نعيم قاسم في 20/11/2024 أنّهم أثناء المعركة يفكّرون في مستقبل الوطن، مضيفًا: "بشكل واضح، أقول لكم: لم نغيّر ولم نبدّل في مواقفنا، ولن نغيّر ولن نبدّل في هذه المواقف الوطنيّة، الشريفة، المقاومة. نحن نؤمن بتكاتف الجيش والشعب والمقاومة، وهو الرصيد المتبقّي الذي نستطيع من خلاله أن نبني وطننا".

بدوره، أطل حليف "الحزب" "اللدود" رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل في 12/11/2024 متحدّثًا عن أنّ المخرج من الوضع القائم هو في ثنائية القرار 1701 والإستراتيجية الدفاعية "اللتين تلتقيان، لا بل تتطابقان وتكمل إحداهما الأخرى، الأول على المستوى الدولي بين لبنان وإسرائيل والمجتمع الدولي، والثاني على المستوى الداخلي بين اللبنانيين".

"الحزب" يحاول التمسّك بهذه السرديات والمصطلحات كأنّ شيئًا لم يكن:

* كأنّ الأخير لم يُسقط ثلاثية "جيش – شعب – مقاومة" بالضربة القاضية على حلبة 8 تشرين الأول حين تفرّد بفتح جبهة الجنوب غير آبه لا برأي الجيش ولا برأي الشعب الممثل عبر النواب الذين اختارهم في صناديق الاقتراع.

* كأنّ "معادلة الردع" التي نسجت حولها أساطير وروايات استطاعت أن تردع الإجرام الإسرائيلي عن لبنان طوال هذا العام.

* كأنّ "الحزب" لم يتنصّل من وضع "الإستراتيجية الدفاعية" عام 2012 حين عُقد اجتماعٌ في قصر بعبدا برئاسة الرئيس ميشال سليمان لخبراء عسكريين عن الأطراف السياسية المشاركة في طاولة الحوار لعرض كلٍّ منهم رؤية فريقه لـ"الإستراتيجية الدفاعية" وتقديمها بورقة مكتوبة، إذ حضر الجميع باستثناء "الحزب" الذي غاب ولم يرسل حتّى أيّ تصوّر له.

في الأساس، ثلاثية "جيش – شعب – مقاومة" هرطقة حين تكون الدولة قائمة، إذ لا مقاومة عسكرية مستقلّة في ظلّ الدولة، بل يكون الجيش مؤسستها العسكرية وإن استدعى الأمر يقف الشعب خلفه مقاومًا وتحت إمرته كما هو الحال في أوكرانيا اليوم. أما الإستراتيجية الدفاعية، فمن اختصاص السلطة الحاكمة رسمها، والجيش يتولى الشقّ التقني كما جرى خلال الحروب العربية مع إسرائيل في 1967 و1973 إذ قرّر لبنان أن يعتمد إستراتيجية المساندة للعرب لا أن يكون دولة منخرطة في المواجهة العسكرية.

ثلاثية "جيش – شعب – مقاومة" هرطقة حين تكون الدولة قائمة، إذ لا مقاومة عسكرية مستقلّة في ظلّ الدولة، بل يكون الجيش مؤسستها العسكرية وإن استدعى الأمر يقف الشعب خلفه

أمّا اليوم، فقد تخطّت الحرب القائمة ثلاثية "الحزب" وبدعة الأطراف السياسية القائمة على ربط النزاع معه من خلال تطفّل الجميع على "الإستراتيجية الدفاعية" التي ربما كان ليغض الطرف عن هذا التطفّل سابقًا، تلافيًا للوقوع في المحظور عبر تفرّد "الحزب" بقرار الحرب والسلام وإقحام لبنان في مغامرات وحروب لم يختر خوضها. فشرائح لبنانية عدّة تجاهر برفضها البقاء رهينة قرارات "الحزب" وسلاحه، والمجتمع الدولي والعربي يصرّ على رفضه التعاطي مع لبنان "نصف دولة" بل يتمسّك بالتعاطي معه كـ "دولة 24 قيراطًا". من آخر المواقف، إعلان الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية نائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل من عين التينة في 24/11/2024 دعم الدولة اللبنانية "جيش وشعب ومؤسسات" وهذه هي ثلاثية المرحلة المقبلة.

بعد مضي نحو ربع قرن على تحرير لبنان وانسحاب الجيش الإسرائيلي، عقب انقضاء أكثر من عام على 7 تشرين الأول التي أطاحت نظرية أنّ سلاح "الحزب" قوة ردع لإسرائيل. والأهم بعد الموافقة المبدئية التي أعلنها الرئيس نبيه بري على الورقة التي حملها هوكستين بما تضمّنته من تراجع لـ"الحزب" أكان عن:

* وحدة الساحات" وتلازم وقف إطلاق النار في لبنان مع غزة.

* رفض مهلة الـ60 يومًا.

* رفض لجنة لمراقبة تطبيق الاتفاق لا أمد زمنيًا لعملها والقبول برئاسة جنرال أميركي للجنة غير محدودة في الزمان رغم قول الشيخ قاسم في آخر إطلالة في 20/11/2024 "نحن نواجه وحوشًا بشريّة إسرائيليّة تدعمها وحوش بشريّة كبرى أميركيّة".

* رفض احتفاظ إسرائيل بحق التدخل ساعة تشاء إن شعرت بخطر لم تردعه القوى المعنية والقبول أن يكون هذا الحق للبنان أيضًا رغم معرفة القدرات عندنا.

أصبح تمسّك "الحزب" بسردياته ومصطلحاته كثلاثية "جيش – شعب – مقاومة" أو "الإستراتيجية الدفاعية" أو "معادلة الردع" أشبه بتلك الدعاية الترويجية الشهيرة إذ تقترح على مواطن استخدام شراب "ليسترين" للحفاظ على أسنانه فيما هو فقدها قبل زمن، فيرّد: "هلق عم تحكيني بالـ"ليسترين".