يواجه المزارعون اللبنانيون معضلة اقتصادية غير مسبوقة من حيث الشكل أو الحجم. يقفون على باب موسم التحضير للزراعات الشتوية، وفي أذهانهم سؤال واحد: "أنبادر ونخسر، أم ننكفئ فنربح؟ أو العكس هو الذي سيحصل؟". غالبية المزارعين يؤجلون البدء بأعمالهم من يوم لآخر بانتظار تلمّس موقف يُنبئ بأنّ الحرب ستتوقف قريبًا أم ستستمر طويلًا. وكحال كلّ اللبنانيين، ينام المزارعون على أمل التوصّل إلى اتفاق، ويصحون على تصعيد ينذر بتوسع رقعة الاقتتال. ويستمرّ القرار بالتأجيل.

تعرف هذه الحالة بعلم الاقتصاد بـ "اللا يَقين" (Uncertainty). وتشكّل خطرًا أكبر بما لا يقاس على المشاريع من حالة المخاطرة (risk) المصاحبة حتمًا، بنسب متفاوتة، لكلّ الاستثمارات، ولا سيما في المجال الزراعي اللبناني. إذ إنّ كلّ دورة زراعية تشكّل لعدد من المزارعين مشروعًا جديدًا، يضعون فيه رأسمالهم بأكمله. يضمنون الأرض، ويستصلحونها، ويشترون البذار والأسمدة، ويستقدمون العمال، ويسدّدون الأجور، وينتظرون أسابيع وأشهراً لبدء الانتاج وتحصيل نسبة بسيطة من الأرباح، خصوصًا إذا ما قورنت أسعار بيع المنتجات بالجملة مع أسعار المفرّق غي الداخل والخارج. وعليه، فإنّ ضياع الموسم سواء كان خضرًا أم فاكهة أم بقوليات، يفلس المزارع ويدفعه إلى ترك القطاع برمّته. وهذا ما حصل مع النسبة الكبرى من المزراعين، حتى الملّاكين منهم، خلال السنوات الماضية، ودفعهم إلى تضمين أراضيهم والنزوح، من مناطقهم إلى العمل في مجالات أخرى.

"اللا يَقين" الزراعي

يمثّل فصل الخريف أهمية استثنائية لمزارعي لبنان عموماً، والبقاع والسهول الساحلية خصوصًا. فخلاله يبدأ حصاد مواسم أساسية مثل الزيتون، والعنب، والموز، والليمون، وبعض الزراعات الإيكزوتيك. وفي هذه الفترة أيضًا "يبدأ التمهيد لكلّ الزراعات الأساسية للموسم المقبل، من بطاطا وبصل وكرمة وقمح وبقوليات وغيرها". يقول رئيس تجمع مزارعي البقاع ابراهيم الترشيشي. وهو ما يتطلّب بادئ ذي بدء تسميد الأرض وشراء البذار والمستلزمات الزراعية. وهي كلّها مواد تستورد من الخارج وتسدّد تكلفتها بالدولار النقدي. ولا يعرف المستوردون هل تصل الطلبات من الخارج أم ستتعرقل لو استُهدف المرفأ أو فرض العدو الإسرائيلي حصارًا بحريًا. ولا سيما بعد إقفال معابر البقاع البريه، وإصدار عضو مجلس الحرب الإسرائيلي بيلي غانتس تحذيراً من "استهداف أصول الدولة اللبنانية كون الحكومة تطلق يد الحزب". وفي حال وصول البضائع هل يتمكّن المزارعون من شرائها والنزول إلى الأراضي، في البقاع الشرقي والجنوب وصولًا حتّى صيدا. وإذا افترضنا أنهم تمكّنوا من ذلك، فهل يستطيعون الحصاد أم تتلف المحاصيل نتيجة توسّع دائرة القصف؟ وإذ تمّ الحصاد فهل يتمكّنون من تصدير بعض المنتجات، وبيع البعض الآخر في الأسواق المحلّية، أم ستقطع الطرق؟ وبأيّ أسعار ستباع في ظلّ تراجع القدرة الشرائية للمستهلكين؟ وكيف لهم أن يعوّضوا التكلفة ويستعدّوا للموسم الآتي؟ هذا بالضبط هو اللايقين الذي يعرقل إتمام حوالى 30 في المئة من المزارعين بدء دورة الزراعات الشتوية. وهو يختلف عن المخاطرة الطبيعية، في ما إذا كانت الأسعار ستشهد انخفاضاً بسبب وفرة الانتاج أم سيتلف بعضها نتيجة الصقيع أو غيرها العديد من المخاطر المصاحبة، والتي كثيراً ما يأخذها المزارعون في الاعتبار.

خسائر معطوفة على ارتفاع التكلفة

إذا كان من المبكر لأوانه الحديث عن الخسائر الراهنة والمستقبلية للقطاع الزراعي، كونها تزداد باطراد يوميّاً، فإنّ "نحو 50 في المئة من الأراضي الزراعية خرجت من الخدمة كلّيّاً أو جزئياً"، يؤكّد الترشيشي. أي أنّ الأراضي إمّا أصبحت تحت القصف الدائم وتلفت مزروعاتها، وإمّا أنّها تقصف بين وقت وآخر، وهذا ما يتيح للمزارعين تحصيل بعض الانتاج منها. وبالأرقام، فإنّ مقدار الأراضي المتضرّرة ارتفع من 1500 هكتار تقع كلها على الشريط الحدودي في بداية العدوان الإسرائيلي، إلى 6000 هكتار بعد توسّع رقعة القصف جنوباً وبقاعاً. واليوم، نتحدّث عن تضرّر 10000 هكتار من الأراضي الزراعية على مساحة لبنان كله. وفي الوقت الذي عادت فيه أعداد العمال الزراعيين بقاعاً أكثر مما كانت عليه قبل الحرب، فإنّ المناطق الجنوبية تفتقد اليد العاملة بسبب ارتفاع المخاطر وتعاني من ارتفاع أسعارها في حال توفرها.

تكلفة النقل ترهق المزارعين

في جميع الحالات، فإنّ القطاع الزراعي برمته يواجه ارتفاع تكلفة النقل داخلياً، وازدياد أسعار الشحن للخارج وإطالة زمنه. ففي حين كان وصول الشاحنة إلى دمشق يتطلّب 3 ساعات حدّاً أقصى عبر معبر المصنع، أصبح يتطلّب اليوم 48 ساعة لاضطرار الشاحنات إلى الدوران من شمال لبنان، مع ما يرافق هذه الرحلة الطويلة من رفع السائقين أجرهم ثلاثة أضعاف، وزيادة 2500 دولار على إيجار الشاحنة بسبب ارتفاع المخاطر وزيادة تكلفة التبريد على طول الطريق. أمّا التصدير البحري فليس أفضل حالًا في ظلّ تراجع أعداد البواخر وتأخّر قدومها ووصولها إلى وجهاتها وزيادة اقساط التأمين. وداخليًا، "يعاني المزارعون من انخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين اللبنانيين وتغيير النزوح للعادات الاستهلاكية، وتوقّف عمل أسواق الخضر والفواكه من النبطية مروراً بمرجعيون وصولاً إلى راشيا وغيرها من أسواق الجملة والمفرق في الجنوب إذ كانت تشتري البضائع والمنتجات من سوق قب الياس البقاعي"، بحسب الترشيشي. "وهذا ما أسفر عن وفرة العرض عن الطلب وكساد المنتجات وانخفاض الأسعار. إذ لم يعد سعر المبيع بالجملة للكثير من المنتجات يغطّي سعر التكلفة".

المخاطر ليس محصورة بالمزارعين اللبنانين، إنّما تتعدّاهم إلى عموم المقيمين. ففي ظلّ المخاطر الجيوسياسية وارتفاع احتمال قطع طرق الاستيراد، فإنّ تراجع الانتاج المحلّي يشكّل من جهة خطرًا جديًا على الأمن الغذائي، ويدفع من جهة ثانية إلى تعطيل مئات المؤسسات وعشرات القطاعات المرتبطة بالزراعة مباشرة أو مداورةً، ومنها بشكل أساسي الصناعات الغذائية.