دأبت وسائل الإعلام المحلية والعربية منذ بدء الانهيار الاقتصادي على مقارنة أرقام الفقر المرتفعة بأسلوب حياة اللبنانيين. وتكرر هذا التمرين الذهني مجدّداً في زمن الحرب، بمرحلتيها المحصورة والموسّعة. وخلصت غالبية التقارير إلى عدم تأثّر المقيمين بالأزمات بمختلف أنواعها الساخنة والباردة والفاترة، أقلّه ليس بالصلافة التي تبيّنها الإحصاءات وبيانات التحذير الأممية. فلا المجاعة دقّت الأبواب، ولا المواطنون استبدلوا بالسيارات "شي تاني" كما توقّع أحد الوزارء سابقًا نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، ولا مؤسسات التعليم الخاص أقفلت أبوابها نتيجة عجز الأهالي عن تسديد الأقساط، ولا المؤسسات السياحية أفلست نتيجة التراجع الدراماتيكي بأعداد الروّاد كما كان منتظرًا. بل العكس تماماً هو الذي حصل.
يقال في قُرانا الجبلية "البيوت أسرار"، للدلالة على التعفّف والصبر على الأزمات. وعندما تسأل الفقراء عن حالهم يقولون "مستورة"، في حين يميل ميسورو الحال إلى البروز والإظهار. وقد استفادت الفئة الأخيرة، التي لا تشكّل أكثر من 20 في المئة من المقيمين، من تهريب الأموال، والدعم، وصيرفة، وتسديد القروض بغير قيمتها الحقيقية، لتزيد ثروتها مليارات الدولارات. وقدّمت بالتالي صورة مشوّهة عن مدى تأثّر اللبنانيين بالانهيار والحرب والأزمات. وذلك من خلال صناعتها مشاهد الزحمة على طرق المدن السياحية الضيقة بالسيارات الفارهة، والجمهرة بما تبقى من مطاعم وملاهٍ في مناطق محصورة، والسفر إلى وجهات سياحية مشهورة. إلّا أنّه خلف هذه الصورة تربض "الأزمة الخفية".
"الأزمة الخفية"
بين آب وتشرين الثاني 2023، أجرت منظمة اليونسيف مسحاً على الأراضي اللبنانية من أجل قياس تأثير الأزمة على سوء التغذية عند اللبنانيين بشكل عام، والأطفال بشكل خاص، وانعكاسها على نمو الطفل وتطوره، وبالتالي مشاركتهم مستقبلًا غي الاقتصاد. شمل المسح 6400 أسرة، وجُمعت أكثر من 7500 عينة دم، ونحو 5500 عينة بول، و3000 عينة من الأملاح المنزلية، كذلك أُجري أكثر من 155 ألف اختبار. وصدرت النتائج في أيلول الماضي.
قدّم المسح مشهدية مثيرة للقلق في ما خصّ العبء الثلاثي المتزايد لسوء التغذية:
- ارتفاع نسبة التقزّم عد الاطفال دون سن الخامسة من 7 في المئة العام 2021، إلى 14 في المئة، أي أنّ هذه النسبة زادت بمقدار الضعفَيْن في غضون عامين فقط. وترتفع هذه النسبة إلى 19 في المئة بين الأطفال السوريين.
يفتقد طفل من كلّ اثنين ما يكفي من الفيتامينات والمعادن الأساسية. ومن المعلوم أنّ نقص المغذيات يؤدّي إلى إعاقة نمو الأطفال وتطورهم الإدراكي ويجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالعدوى.
- ارتفاع نسبة النساء اللبنانيات اللواتي يعانين من السمنة إلى 54 في المئة، والفلسطينيات إلى 66 في المئة. كما أنّ واحدة من كلّ ثلاث فتيات مراهقات تعاني من الوزن الزائد. ولا تعتبر زيادة الوزن دليل صحة، وإنّما سوء تغذية، ناجم بشكل أساسي عن استهلاك الأطعمة غير الصحية (غنية بالنشويات على حساب كمية البروتينات)، والمعالجة، ونقص النشاط البدني.
وجود بضعة آلاف من الأشخاص، يتنقّلون بين المتاجر والطائرات والمطاعم والأسواق ليس دليل عافية.
الفقر هو السبب
أسباب هذه الحالات أنّ 60 في المئة من الاسر اللبنانية، و85 من الأسر السورية تواجه حالة من انعدام الأمن الغذائي، فانعكس ذلك مباشرة على معاناة 74 في المئة من الأطفال اللبنانين، و84 في المئة من السوريين الذين هم دون السنتين، في الحصول على كفايتهم من الغذاء. ويؤدّي سوء التغذية في هذا العمر إلى التقزم (قصر القامة)، ومنع نمو الدماغ بشكل كامل، فيؤثّر هذا كله على قدرة الطفل على التعلم والتطور، ولاحقًا على الأداء في العمل وكسب المال، والمساهمة الفاعلة في المجتمع. ويؤدّي سوء التغذية إلى ارتفاع معدّل الهزال (فقدان الوزن بشكل كبير) في صفوف الأطفال الذين هم دون الستة أشهر، وتالياً إلى إضعاف مناعتهم وجعلهم عرضة لتأخر النمو والمرض والموت.
وإذا كان من السهل مراجعة بعض أشكال سوء التغذية مثل الهزال والتقزّم، فإنّ حالات نقص الفيتامينات تبقى مستترة، كونها تتطلّب فحوصاً مخبرية. ومما تبيّن من المسح أنّ 46 في المئة من الأطفال الذين هم دون سن الخامسة يعانون من نوع واحد على الأقل من نقص الفيتامينات، و/ أو فقر الدم. وترتفع هذه النسبة إلى 80 في المئة في صفوف المراهقات والنساء الحوامل.
المعالجات
هذه الارقام التي تدلّ على زيادة معدّلات الفقر وانخفاض الأمن الغذائي، جُمعت قبل الحرب بشكليها المضبوط والمتفلّت. ومن المتوقع، بحسب اليونيسف، أن تتعرض أكثر من 40 ألف امرأة وطفل لمخاطر سوء تغذية شديدة وحرمان تنموي كبير، بسبب انقطاع الوصول إلى الغذاء السليم وخدمات التغذية الأساسية.
من البديهي أنّ معالجة الأمن الغذائي تتطلّب العمل على 3 مسارات:
* الأوّل، تضمين المساعدات الغذائية التي تأتي من الدول الأجنبية الفيتامينات الأساسية مثل الحديد والزنك والفيتامين (د) و(ب) والملح الميود (الغني باليود). ومن المعلوم مدى أهمية هذه الفيتامينات في تقوية المناعة، والتقليل من التقاط العدوى، وتكوين خلايا الدم الحمر والحمض النووي وتقوية العظام، وتعزيز الجهاز المناعي.
* دعم أنظمة الحماية الاجتماعية وتفعيلها، وضمان وصول الغذاء إلى جميع المحتاجين. فما يجري في لبنان إلى اليوم لا يشبه من قريب أو بعيد بناء شبكة أمان اجتماعي. فالأموال تتأتى من القروض الدولية، وأبرزها تلك المسلّفة من البنك الدولي لفترات محدودة لا تتجاوز العام الواحد. وهي لا تشمل كلّ المحتاجين، وتعتبر في جميع الحالات قليلة جدًا مقارنةً بكثرة الحاجات. إذ في حين تعترف المؤسسات الدولية بأنّ الحدّ الأدنى لضمان الحياة في لبنان يتطلّب دخلاً مقداره 428 دولاراً في الشهر لعائلة مؤلّفة من 5 أشخاص، فإنّ الدعم لا يتجاوز الـ 150 دولاراً في أحسن الحالات. والكثير من الأموال التي تاتي منحاً ومساعدات غالبًا ما تكون لمرة واحدة وبمبالغ شحيحة جدًا.
* الدعم الزراعي ومساعدة المزارعين على بناء قدراتهم وتنويع مزروعاتهم وانتاجهم النباتي والحيواني. وتشجيع إنشاء أسواق الاستهلاك المباشر التي تضمن وصول المنتجات من المنتج إلى المستهلك، من دون المرور بحلقة التجار التي غالبًا ما تشهد رفعًا للأسعار، يقوّض استفادة المزارع، ويمنع المنتجات على الكثير من المستهلكين.
بالأرقام والإحصاءات يمكن القول إنّ لبنان واللبنانيين ليسا بخير، ووجود بضعة آلاف من الأشخاص، يتنقّلون بين المتاجر والطائرات والمطاعم والأسواق ليس دليل عافية. وترديد هذه النظرية ما هو سوى إنكار صريح رفضًا للإقرار بأنّنا أصبحنا في مرتبة الدول المارقة، وهذا ما يؤخّر الخلاص.