النتيجة التي انتهت إليها الانتخابات الأميركية التي أجريت في الخامس من هذا الشهر حملت الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بثلاثمئة واثني عشر صوتا انتخابيا مقابل مئتين وستة وعشرين، وأعطت الحزب الجمهوري أغلبية ثلاثة وخمسين صوتا في مجلس الشيوخ، وجدّدت أغلبيته في مجلس النواب. هذه النتيجة تذكّر بنتيجة انتخابات 2012 التي فاز فيها الرئيس باراك أوباما على الجمهوري ميت رومني بثلاثمئة واثنين وثلاثين صوتا انتخابيا مقابل مئتين وستة أصوات، لكنّها لم تصل إلى نتيجة انتخابات 1984 التي فاز فيها الرئيس رونالد ريغان على الديمقراطي والتر مونديل بحصوله على 525 صوتا انتخابيا من أصل 538، وفوزه في 49 ولاية من أصل 50.
وهذه، لا شك، انتكاسة كبيرة للحزب الديمقراطي فتحت الباب واسعاً أمام قادته والطامحين إلى خلافتهم لتبادل الاتهامات بالفشل وارتكاب أخطاء جسيمة بدّدت الحماسة التي رافقت انطلاقة نائبة الرئيس كَمَلا هاريس مرشَّحَةً للحزب الديمقراطي، وفاجأت الجميع.
أبرز هذه الأخطاء تأخر الرئيس بايدن في إعلان انسحابه بعدما اضطرّ للرضوخ لرغبة الأكثرية الحزبية التي ذكّرته بوعده أن يكون جسراً للجيل الصاعد من الديمقراطيين فإذا به يستمرئ إقامته في البيت الأبيض ويسعى إلى تمديدها.
ثاني هذه الأخطاء فشل هاريس في الابتعاد عن سياسات بايدن، خصوصاً الاقتصادية، وفي رسم سياسات اقتصادية خاصة بها.
ثالث هذه الأخطاء تركيز هاريس على مثالب ترامب بدل تخصيص وقت أكبر للحديث عن خططها ومشاريعها.
بتحليل النتائج، تبرز عدة أسباب رئيسية ساهمت في هزيمة الحزب الديمقراطي:
الفشل في معالجة المخاوف الاقتصادية
تصدّر الاقتصاد القضايا المهمّة للناخبين، إذ اعتبره 81 في المئة منهم أقوى دافع قادهم إلى صناديق الاقتراع. ومع ذلك، فشلت حملة هاريس في تهدئة المخاوف الاقتصادية.
يأتي التضخم وارتفاع كلفة المعيشة في صدارة الهموم الاقتصادية. ولم تلقَ تعهدات هاريس بخفض الضرائب لأكثر من مئة مليون مواطن ورفعها على الشركات الصدى المطلوب لأنها اعتُبِرت غير كافية.
عامل الفشل الثاني في الحملة الاقتناع الشعبي بانفصالها عن هموم الطبقة العاملة. فقد أشار السيناتور التقدّمي بيرني ساندرز إلى أن الحزب الديمقراطي قد "تخلى عن الطبقة العاملة،" ما أدى إلى تخليها عنه. في المقابل، حقق ترامب خرقاً في صفوف هذه الفئة.
ثالث العوامل المؤثرة هو صورة النخبوية، وهو ما نتج عن ربط الحملة بالمشاهير الأثرياء، مثل بيونسيه وتايلر سويفت وسواهما، وأدّى إلى خلق تباين صارخ مع صورة ترامب الغارقة في الشعبوية.
فشل الخطاب واستراتيجية التواصل
واجهت حملة هاريس صعوبات في صوغ سرديّة مقنعة قادرة على مقارعة خطاب ترامب:
أولى هذه الصعوبات الفشل في توضيح الفوارق بين سياسات هاريس وسياسات بايدن، وهو ما خلق انطباعاً بأنّ عهد هاريس سيكون امتداداً لعهد بايدن الذي فقد شعبيته.
ثانية هذه الصعوبات عدم التوافق مع المزاج العام. فخطاب الحماسة والتفاؤل والأمل الذي حاولت الحملة إطلاقه لم يفعل فعله إذ استمرّ الناخبون في الشعور بأنّ البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ.
ثالثة هذه الصعوبات الانفصال اللغوي والثقافي. وقد سلّطت المسؤولة الكبيرة في الحملة الديمقراطية جولي روجينسكي الضوء على فشل الحزب في التواصل بشكل فعال مع الناخبين، خصوصاً ذوي الأصول الأميركية اللاتينية، مستشهدة بأمثلة مثل استخدام مصطلح LatinX بدلاً منLatino أو Latina، وهو ما نفّر اللاتينيين. فهذا المصطلح أراد تجنب مخاطبة الناخبين بصيغة التذكير أو التأنيث، متوجّهاً إليهم وكأنهم بلا جنس محدّد، وهذا ما أثار حفيظتهم لأنهم رأوا فيه طعناً بقيمهم المسيحية.
التحولات الديموغرافية وتصدّعات التحالف
ظهرت علامات التفكك في التحالف الديمقراطي في العديد من الفئات الديموغرافية الرئيسية. فالعرب والمسلمون، لا سيما في المناطق الحاسمة مثل ديربورن في ولاية ميشيغن، أحجموا عن دعم هاريس وأرادوا معاقبتها على سياسة إدارة بايدن حيال غزّة ولبنان.
يضاف إلى ذلك أنّ استطلاعات الرأي بيّنت أن أداء هاريس مع ذوي الأصول الأميركية الجنوبية كان سيئا مقارنة بأداء بايدن قبل أربع سنوات، مع رحيل ملحوظ بين الرجال نحو ترامب.
التحوّل الثالث حصل في صفوف الطبقة العاملة إذ فشلت الحملة في مخاطبة مخاوفها فأدّى ذلك إلى خسائر كبيرة في أصواتها. وأبرز الأمثلة على ذلك انقسام نقاية سائقي شاحنات النقل للمرة الأولى في تاريخ النقابة. وفي هذا قال مدير حملة أوباما الانتخابية ديفد أكسلرود إن الحزب الديمقراطي استخدم لغة المرسّلين الدينيين في مخاطبة الطبقة العاملة داعيا العمال إلى التشبّه به بدلاً من أن يقبلهم كما هم.
والعنصر الرابع هو عدم إقبال النساء بالكثافة المطلوبة.
الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية
تأخُّر بايدن في إعلان انسحابه لهاريس حرمها من الاستعداد الكافي إذ لم يكن لديها أكثر من مئة وتسعة أيام فاضطرّت إلى استخدام حملة بايدن.
السياسة الإعلامية كانت ثاني هذه الأخطاء إذ إنّ الحملة تبنّت استراتيجية رقمية أولاً، إلا أن وصولها إلى وسائل التواصل الاجتماعي كان أقل مقارنة بحملة ترامب، وبخاصّة على منصات مثل X التي يملكها أيلون ماسك وهو الذي عيّنه ترامب مسؤولا عن كفاءة الدولة وتقليص الإنفاق الحكومي.
ثالث هذه الأخطاء التركيز المفرط على قضايا اعتقد الديمقراطيون أنها الدجاجة التي ستبيض لهم ذهباً مثل حق المرأة في امتلاك قرار الإجهاض. وفيما كانت هذه القضية مهمة، لم تكن بأهمّيّة القضايا الاقتصادية وغلاء المعيشة وتفلّت الحدود أمام الهجرة غير الشرعية وإطلاق حرية التحوّل الجندري.
الفشل في الولايات المتأرجحة
استطلاعات الرأي في الولايات المتأرجحة في هذه الحملة الانتخابية ذكّرت باستطلاعات الرأي التي أجريت في نهاية الحملة الانتخابية في العام 2016 والتي كانت تظهر المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون متقدّمة خصوصاً في الولايات المتأرجحة. والنتيجة كانت فوز ترامب في كل تلك الولايات.
ولعل الخطأ الاستراتيجي الأبرز هو انهيار ما سمّاه الديمقراطيون "الجدار الأزرق"، وهو مجموعة ولايات في الغرب الأوسط والشرق قوامها وسكنسن وميشيغان وبنسلفانيا إضافة إلى ولايتَي نيفادا وأريزونا الغربيتين. واتّكل الديمقراطيون على الجدار الأزرق طريقا أساسيا إلى البيت الأبيض. خسر الديمقراطيون ولايات "الجدار الأزرق" الحاسمة والتي كانت ضرورية لاستراتيجيتهم الانتخابية.
وكثُر عدد الديمقراطيين الذين ينتقدون هذه الاستراتيجية، وخصوصاً لأنها توقف مصير الانتخابات على سبع ولايات متأرجحة (يضاف إلى الولايات الخمس المذكورة ولايتا نورث كارولاينا وجورجيا)، وهذا ما أثار الديمقراطيين في ولايات ذات أغلبية جمهورية. وتساءل أندي بشير، الحاكم الديمقراطي لولاية كنتاكي الجمهورية المحافظة عن سبب غياب أي نشاط للحملة الديمقراطية في ولايته وكأنها سلّمت بأنها غير مهمة لهاريس.
كشفت الهزيمة أيضًا عن انقسامات أيديولوجية وخلافات على آلية اختيار المرشحين، وبالتحديد كيفية اختيار هاريس وغياب الانتخابات التمهيدية ومعارك التصفية فيها.
ولا شك الآن في أن أمام الحزب الديمقراطي ورشة كبيرة لتصحيح أخطائه وإعادة البناء وإعداد قيادات جديدة والتركيز على خطاب جديد يعيد لمّ شمل الفئات الديمغرافية التي خسرها لمصلحة ترامب.