ليست الشفافية بنقطة قوّة للبنان. بل على العكس. شكّل غيابها في إدارة الشؤون العامّة نقطة ضعف أدّت إلى كوارث على صعيد المالية العامة، وعلى صعيد التنمية البشرية. التاريخ الحديث يُخبرنا أنّ الدولة اللبنانية عمدت إلى تصفير حساباتها في العام 1993 بذريعة فقدان المستندات القانونية واحتراقها خلال الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي. هذا الأمر عرقل رقابة ديوان المحاسبة على كلّ ما تبع من موازنات لاحقة وأثّر بشكلٍ كبير على قطوعات الحسابات التي غابت منذ العام 2003 إلى الساعة وراكمت دينًا عامًا مقداره نحو مئة مليار دولار أميركي، في مشهد سريالي سنوي ،مخالفةً الدستور وقانون المحاسبة العمومية.
غياب الشفافية شمل بشكل أساسي الإنفاق العام وأظهر مشكلات كثيرة أثارتها القوى السياسية بعضها ضد بعض، وديوان المُحاسبة الذي أثار في العام 2010 مُشكلة عمليات تزوير ومخالفات مالية سابقة وجارية في وزارة المال.
استمر الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية والاعتمادات من خارج الموازنة من العام 2006 إلى العام 2016. وتراكم معها الدين العام من 38.5 مليار دولار أميركي إلى 72 مليارًا. وحتى بعد إقرار موازنات الأعوام التي تلت، لم تُقرّ قطوعات الحسابات، وهذا ما يدلّ على عدم الرغبة في إبراز الحقائق للرأي العام اللبناني.
في أيلول من العام 2019، عرض وزير المال آنذاك تقريرًا عن إعادة تكوين الحسابات لدى وزارته تشمل الفترة المُمتدّة من العام 1993 إلى العام 2017 وخلص إلى نتائج كارثية: مخالفات وجرائم موصوفة لا يمكن التغاضي عنها ببساطة (امتلاك العديد من المؤسسات العامة حسابات في مصارف خاصة، عدم ردّ سلف الخزينة بقيمة أكبر من 80 ألف مليار ليرة، عدم إدراج الهبات الدولية في حسابات الدولة اللبنانية...).
أكثر من ذلك، خلال الأزمة التي عصفت بلبنان في العام 2020، أُقرّ ما يُعرف بالدعم الذي كلّف نحو 15 مليار دولار أميركي. وإلى الساعة لم تُجرَ أيّ عملية تدقيق لمعرفة أين ذهبت هذه الأموال وكيف أُنفقت، خصوصًا أنها أتت مباشرةً من احتياطات مصرف لبنان. ولم تَسلم أموال حقوق السحب الخاصة من المنهجية نفسها إذ أُنفق 1.39 مليار دولار أميركي من دون أن يكون هناك كشف للرأي العام عن كيفية الإنفاق وأسبابه.
أظهر تقرير ألفارز آند مارسال جزءًا بسيطًا من المنهجية الكارثية التي تُعتمد مع المال العام، وأثبت من دون أدنى شكّ أنّ التدقيق هو جوهر الحوكمة الرشيدة. إلّا أنّ السلطة السياسية تعاود، بحكم العدوان الإسرائيلي، تطبيق منهجيتها من خلال فرض الاقتراض على مصرف لبنان بعدما توقّف هذا الأمر منذ العام 2023. فبحجّة فتح اعتمادات لتغطية كلفة إعالة النازحين، أقرّ مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة سلفة لوزارة الطاقة والمياه بغية تأمين المازوت للتدفئة في 541 مركز إيواء، وذلك بناءً على دراسة قامت بها لجنة الطوارئ. وأقرّ المجلس أيضًا فتح اعتماد لتطويع ألف وخمسمئة جندي بهدف تأمين انتشار الجيش في الجنوب. هذا كلّه من خارج موازنة العام 2025 التي لم تُقرّ إلى الساعة. وهنا يُطرح سؤال جوهري: من يضمن شفافية الإنفاق في هذه المرحلة الحرجة ماليًا (على كلّ الأصعدة) من تاريخ لبنان؟
كلّ ما هو مطلوب من الحكومة هو القيام ببعض الإصلاحات التي تُعبّد الطريق للمساعدات الدولية
ثلاث مشكلات تظهر نتيجة الاستمرار في المنهجية نفسها:
الأولى: رفض المُجتمع الدولي تقديم مساعدات مالية إلى الدولة اللبنانية في ظل غياب الإصلاحات، وعلى رأسها تطبيق الشفافية، والاكتفاء بمساعدات عينية لا نعرف كيف توزّع ولمن تُوزّع نتيجة غياب تقارير واضحة تُنشر على موقع خاص مثلًا، وتُعطي كلّ ما يحتاج إليه المُتبرّع من معلومات تُشجّعه على تقديم مساعدات مالية.
الثانية: استمرار نهج الاقتراض من مصرف لبنان، وهو ما لا يُمكن حاكم المركزي أن يرفضه عملًا بالمادّة 91 من قانون النقد والتسليف. وهذا ما يعني أنّ الاحتياطي الإلزامي – أي أموال المودعين – في خطر حقيقي.
الثالثة: استمرار مخالفة قانون المحاسبة العمومية من باب تقديم السُلف إلى الإدارات العامة، علمًا بأنّ القانون يحصرها بالمؤسسات العامة والبلديات التي تلتزم إعادتها إلى الخزينة.
هذه المشكلات ستؤدّي حكمًا إلى رفض المجتمع الدولي تقديم مساعدات مالية، ولكن أيضًا – وهذا الأخطر – المسّ بما تبقّى من مدخرات المودعين. وبالتالي، يُمكن الجزم بأن ما تقوم به الحكومة حاليًا على الصعيد المالي ليس بالخيار السليم، بغضّ النظر عن الضرورة التي تفرضها أزمة النازحين، والتي كان ممكنًا تمويلها كاملةً من الهبات والمُساعدات الدولية لو كان هنالك حدّ أدنى من الشفافية.
في الواقع، كلّ ما هو مطلوب من الحكومة هو القيام ببعض الإصلاحات التي تُعبّد الطريق للمساعدات الدولية، وعلى رأس هذه الإصلاحات الشفافية التي تُعتبر العنصر الأول لمكافحة الفساد المالي والإداري. كم بلغ مقدار المُساعدات الدولية التي وصلت إلى لبنان منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان؟ وكيف وُزّعت على النازحين؟ هل هنالك جواب عن هذين السؤاليْن؟
والسؤال الأهمّ: في ظل ما حصل في قضية الدعم في العام 2020 من فساد وهدر للمال العام والخاص، من يضمن أنّ الإنفاق الذي أقرّته الحكومة في جلستها الأخيرة، سيتمّ بحسب ما هو مُقرّر له؟
من هذا المُنطلق، نرى أنّ مسؤولية الحكومة، بصفة كونها واضعة للسياسات العامّة بحسب المادة 65 من الدستور اللبناني ومنفّذتها، أن تقوم بما هو أساسي وجوهري لوضع لبنان على السكّة الصحيحة للانتظام المالي والحوكمة الرشيدة. فهل تفغبجل ذلك من تلقاء نفسها أم ستكون مُلزمة من خلال التضييق المالي على لبنان ومن خلال العقوبات الدولية التي تفوح رائحتها من تصاريح المسؤولين الدوليين؟
لا يسعنا القول في الختام إلّا أنّ ما يُعانيه الشعب اللبناني حاليًا من أزمات اقتصادية ومالية، ما هو سوى نتاج الفساد الذي ينتج بدوره من غياب الشفافية في إدارة الشأن العام. لقد آن الأوان أن يُحاسب الشعب اللبناني مُمثّليه بمعزل عن الانتماءات الطائفية البغيضة، وتطبيق معيار واحد، ألا وهو رفاهية المواطن.