اعتاد الأقدمون من اللبنانيين شراء الذهب بالفضلة من غلّة أرزاقهم. واشترطوه بنداً في حقوق "العروس" مُقدّمًا ومؤخّرًا. وظلّ لعقود الهدية المثلى للمواليد الجدد. هذه العادة النّابعة من التحوّط لغدرات الزمان وانهيار العملات منذ أيام السلطنة العثماية، وصلت إلى الرئيس الياس سركيس. فأهدى إلى لبنان خمسة ملايين أونصة أيام كان حاكماً لمصرف لبنان (1968 – 1976)، وحفّز الحكومة على ملاقاته بشراء المزيد من الكميات حتى أوائل السبعينات. فكانت النتيجة 9.2 مليون أونصة، وليرات، تزن 287 طناً من الذهب الخالص، أقفل عليها مجلس النواب باب الخزنة، ومنع التصرف بها بيعاً، وتأجيراً، واستعمالاً بموجب القانون 44 للعام 1986.
منذ العام 2019، تاريخ اندلاع الانهيار الكبير، أخذت أسعار الذهب ترتفع عالميًا بالتوازي مع ارتفاع المخاطر الاقتصادية الصحية والجيوسياسية، وتوجه الدول والمصارف المركزية إلى شراء كميات كبيرة من المعدن الأصفر. إذ رأى كثيرون أنّ الذهب يوفّر حماية فعّالة ضد التضخم، ويعتبر وسيلة تنويع إستراتيجية ضمن المحافظ الاستثمارية، ويلعب دورًا محوريًا في تقليل المخاطر المالية. وقد ساعدت الخشية التي تتجدد سنويًا من تخلّف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، على تحقيق الذهب مكاسب متزايدة. فارتفع سعر الأونصة بين العامين 2019 و2024 من 1511 دولارًا إلى 2700 دولار، وبزيادة نسبتها 44 في المئة.
إن كان لا بد من استعمال الذهب فيفضّل عدم بيعه بل أخذ القروض عليه
لبنان يكسب
لبنان حقق، خلافًا لتاريخه الحافل بالخسائر خلال الأعوام الخسمة المنقضية، مكاسب تفوق 13 مليار دولار. إذ ارتفعت قيمة الاحتياطي الذهبي الذي يملكه من 12 مليار دولار في العام 2019 إلى أكثر من 25 ملياراً، مع نهاية تشرين الأول الماضي. وعلى جري العادة المترافقة مع كلّ ارتفاع في قيمة الاحتياطي، برزت آراء تطالب بالاستفادة من الزيادات المحققة. والجديد، اليوم، هو انتقال المطالبة من استخدام الذهب للتعويض عن المودعين، إلى التعويض عن أضرار الحرب الآنية والمستقبلية. فما هي الفائدة من هذا الذهب إن لم نستعمله في مثل هذه الأيام السود؟ وإن لم نستفد منه في الوقت الذي تحجم فيه الدول عن إقراض لبنان، ويشكّل توسّع الإنفاق بالليرة خطرًا على سعر الصرف والتضخم، فما هي فائدته؟
محاذير استخدام الذهب
أسئلة كثيرة مشروعة في الشكل العام، إلّا أنّها تتطلب في المضمون التوقف عند أكثر من نقطة، ومنها:
- ثلث كمية الذهب بحجم 95 ألف طن، وبقيمة آنية تقدر بـ 8.3 مليار دولار مخزّنة خارج لبنان، في قلعة "فورت نوكس" الأميركية. ومن الصعب استعمالها أو التصرّف بها قياساً إلى تجارب دول أخرى حاولت سحب ذهبها من المكان نفسه وفشلت.
- من غير المؤكّد إلى الساعة مصير الكميات الموجودة في لبنان، وما إذا كان قد جرى القيام بعمليات مالية على بعضها أو على كلها، خلال السنوات الماضية خلافاً للقانون. فإنكار حاكم مصرف لبنان السابق هذه الشكوك في كانون الأول 2022، من خلال الإعلان في بيان عن نتائج التدقيق المحاسبي الذي أجراه على الذهب، لم يبرّد المخاوف. خصوصاً أنّه لم يفصح عن اسم الشركة المدققة، بعد اعتذار KPMG العالمية عن المهمة، ولم يُظهر المستندات والوثائق، بل أعلن فقط أنّ النتائج أتت متطابقة مع أرقام المصرف، مرفقة بصورة له يتوسط الذهب في مخزن المركزي. مع العلم أنّ آخر مسح كان قد أجري على الذهب في العام 1996.
- التسليم بوجود كمية الذهب كلها في الخزينة، لا يعني عدم إمكانية وجود رهن دفتري عليها. خصوصًا أنّه لم يُعلن عمّا إذا كانت الشركة المدقّقة اكتفت بإحصاء الذهب الموجود أم قارنته محاسبيًا. ونتيجة جميع المخالفات المرتكبة خلال فترة الحاكمية السابقة، والتي أفضت إلى دعاوى في الخارج ومحاكمات في الداخل، فإنّ الشك مشروع.
- استعمال الذهب كأصل ذي قيمة من أصول المركزي سيثير نقمة الدائنين الدوليين، وقد يدفعهم إلى تسريع الدعاوى القانونية والحجز على كلّ أصول المركزي قبل استعمالها داخليًا من أجل حفظ حقوقهم.
- التراجع في أصول المركزي، وتحديدًا الأصل الأهمّ المتمثّل بالذهب يهدد الليرة ويعرضها للمزيد من الانهيار مستقبلًا. خصوصًا إذا تمّ السير بخطة ليلرة الودائع، مع ما ستستتبعه من انفلاش في الكتلة النقدية بالليرة. إذ إنّ المادة 69 من قانون النقد والتسليف تنصّ على وجوب إبقاء مصرف لبنان في موجوداته أموالًا ومن العملات الاجنبية وكمّيات من الذهب تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني، توازي 30 بالمئة على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب (تقدر اليوم بنحو 86 ألف مليار ليرة)، على أن لا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50 بالمئة من قيمة النقد المصدر.
- استعمال الذهب يقلّل من حظوظ المودعين استرجاع جزء بسيط من ودائعهم.
- قد يصعّب بيع الذهب أو تناقصه من شروط صندوق النقد الدولي ويفرض على الحكومة أخذ المزيد من الإجراءات الضريبية الصعبة وغير الضريبية.
- إنّ استعمال الذهب كأصل نادر يجب يكون استثماريًا، أي أن نستعمله لاستيلاد الموارد مراراً وتكراراً، وليس إنفاقه استهلاكيًا لمرة واحدة. وبالإمكان الاستفادة من الطرائق الاستثمارية الحديثة مثل تأجيره في أسواق التداول العالمية مقابل سعر إيجار يعرف بـ"معدل إيجار الذهب"، وهذا ما يولد دخلًا سنويًا كبيرًا.
- وإن كان لا بد من استعمال الذهب، فيفضّل عدم بيعه بل أخذ القروض عليه من خلال "اتفاقية إعادة الشراء"، إذ يحصل لبنان على كمية من المال كقرض مقابل رهن كمية من الذهب، يتعهّد إعادة شرائها بعد فترة زمنية محددة، وبهذه الطريقة يكون قد حافظ على الأصل ولم يفرط فيه.
- كلّ الطرق التقليدية والحديثة للاستفادرة من الذهب تثير الريبة عند الكثيرين في أمرين: التفريط بالمردود، وعدم استعماله بطريقة شفافة وعلمية وموضوعية. وخسارة الذهب إلى الأبد.
في غمرة هذه التحديات، من المفضل عدم مسّ الذهب حاليًا، مع عدم اعتباره "تابو"، وإنّما ترك إمكان التصرف به للإدارة الجديدة للبلاد عندما يكون هناك رئيس وحكومة أصيلة. وطبعًا بتشريع من مجلس النواب.