أنجزت الحكومة اللبنانية في غضون شهرين مشروعي رفع السرية المصرفية وإعادة هيكلة المصارف، اللذين كانا قد علقا منذ خمس سنوات على حبال التعطيل. الغرض الأول منهما ليس الإصلاح السريع، فهما في "وقف التنفيذ" إلى حين معالجة الفجوة المالية، و يهدفان إلى تذخير الوفد المشارك في اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين بـ"الطلقات" الكافية، لإعادة تفعيل المفاوضات، من دون أن يُعلم لغاية اللحظة إن كانت الطلقات "حية" أم "خلّبية" . فهل يُعاد وصل ما انقطع بهذه السهولة مع "الصندوق" في العام 2022، كما توحي أجواء وزارة المالية؟ وهل إقرار الحكومة لمشاريع القوانين الاصلاحية يعني سلوكها مسار التطبيق حكماً، أم أن في الأمر قطبة مخفية؟!

تتطلب مشاريع قوانين الإصلاح المالي التي أقرّتها الحكومة لتصبح نافذة من حيث الشكل، دراسة مفصلة من قبل اللجان النيابية المختصة، ولاسيما من لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل، ومن ثم التصويت عليها في الهيئة العامة للبرلمان. ويمكن اختصار الوقت من خلال موافقة رئيس المجلس النيابي على إحالتها إلى اللجان المشتركة فقط، كما حدث راهناً مع قانون تعديل السرية المصرفية. أما في المضمون فإن اللجان النيابية والهيئة العامة يمكن أن تُدخل تعديلات على المشاريع تهدف إلى خدمة أطراف محدّدة، أكثر من تحقيق الصالح العام. وغالباً ما يتجنب النواب الموافقة على وصف "دواء" الإصلاح المر، هرباً من نقمة قاعدتهم الشعبية وغضب مموّليهم، ولحماية "تجديد البيعة" في الانتخابات القادمة. ولو سلمنا جدلاً بإمكانية إقرار القوانين من دون "زَغَل"، يبقى التحدي بوضع مراسيمها التطبيقية. وهي العقدة التي خلّفت وراءها 18 قانوناً مالياً "إصلاحياً" من دون تنفيذ؛ ليس أقلها أهمية تلك المتعلقة بمكافحة الفساد، واستعادة الأموال المتأتية من جرائم الفساد، والتهرب الضريبي.

العوائق المحتملة لإصلاح المصارف

في ما خص القانونين موضوع المقال، من المتوقع تمرير مشروع قانون تعديل السرية المصرفية سريعا ومن دون تعديل، وتعقيد إعادة هيكلة المصارف. المشروع لم ينل بركة قسم من المصارف، إن لم نقل من معظمها. وإن كان سُمح في المادة 31 منه بالطعن بقرارات الهيئة المصرفية العليا المسؤولة عن قرار الاستمرار أو التصفية، أمام المحكمة الخاصة المنشأة، فقد قوِّض في المادة 26 منه دفاع المصارف المستميت لاعتبار الأزمة نظامية. إذا أقرت هذه المادة بـ "امتصاص الخسائر من قبل المساهمين والدائنين في عملية التصفية وفقا "لتراتبية الأموال الخاصة والدائنين".. وإذا ما عطفنا هذا النص على المادة 3 التي تنص على "الحد من استخدام الأموال العامة في عملية إصلاح وضع المصارف". يمكن الاستنتاج أن التراتبية التي ستُعتمد في قانون معالجة الفجوة المالية المنتظر ستحمِل المصارف المسؤولة الاساسية، ومن بعدها المودعين وأخيرا الدولة ومصرف لبنان. وهي تراتبية المسؤوليات والخسائر التي سبق لصندوق النقد أن طلبها.

التعديلات على إصلاح المصارف أفضل الممكن

عرقلة تمرير قانون إصلاح المصارف، سيحمل نتائج خطيرة على الاقتصاد والمودعين والعلاقة مع صندوق النقد الدولي. التعديلات الحكومية التي أُدخلت على "إصلاح المصارف" تتوافق برأي الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة المحامي كريم ضاهر، مع المنطق، ومع متطلبات الإصلاح الدولية، لناحيتين أساسيتين:

- الاولى، أن هذا المشروع سيصبح قانون إطار، والمرجع الصالح لمعالجة أي تعثر مصرفي بالمستقبل.

- الثاني، معالجة المشاكل الاستثنائية الناتجة عن الأزمة، بالتوازي مع إقرار اعادة الانتظام إلى النظام المالي لاحقاً.

أبرز التعديلات التي أدخلت على القانون

أكثر من تعديل أُدخل على مشروع قانون إصلاح المصارف المستوحى بجزء كبير منه من المشروع المقدم في تشرين الثاني 2023، الذي أُشبع درساً ونقاشاً مع صندوق النقد الدولي آنذاك، ولعلّ أبرزها:

- ربط نفاذ القانون بإقرار قانون إعادة الانتظام إلى النظام المالي، وقد اكد وزير المالية ياسين جابر أن "تعليق تنفيذ القانون تم بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي".

- إضافة صناديق الضمان والتقاعد والاستشفاء للنقابات والعسكريين إلى الفئات المحمية.

- حماية صغار المودعين وإعطائهم الأولوية في حماية الودائع.

- التثبيت أن معالجة أوضاع المصارف يبدأ اولاً برساميل المصرف والأموال الخاصة.

- تفعيل محكمة خاصة للبت بالنزاعات بين المودعين والمصارف.

- تأكيد الحد من استعمال الأموال العامة في عملية إعادة الهيكلة.

- ضمان حق الإعتراض على قرارات الهيئة المصرفية العليا ووضع الآلية المناسبة لها.

- إلغاء بند تعيين المصارف للمقيمين (لجنة التخمين). فأصبح من يعيّنها ويتحمّل تكاليفها مصرف لبنان، منعاً لتضارب المصالح.

الاعتراضات على القانون بدأت بالظهور سريعاً

الاعتراضات على قانون إصلاح المصارف التي بدأت تظهر من قبل بعض جمعيات المودعين، بعضها عفوي، والبعض الآخر قد يكون مدفوعا بمصالح مصرفية، وخصوصاً أن بعض الجمعيات أصبحت تمثل أذرع الدفاع "الخشنة" عن مصالح المصارف. فالبنوك استشعرت من بعد إقرار مشروع قانون إصلاح المصارف، أن معالجة الفجوة المالية الآتي على صهوة صندوق النقد ايضاً، لن يصب في مصالحها ولن يخدم السردية التي سوقت لها منذ بدء الإنهيار أن ردم الفجوة من مسؤولية الدولة.

"محاولة التسويق أن مطالب صندوق النقد لن تصب في مصلحة المودعين، ومن الأفضل استبدالها بالحلول المحلية بدأت بالظهور سريعا"، بحسب المحامي كريم ضاهر، "إذ يعمد البعض إلى ترويج أفكار مفادها أن المبلغ الموعود به لبنان زهيد، ويمكن تأمينه من خلال عودة الاستثمارات وتدفق الرساميل وتحقيق نموٍ بنسبة 6 و7 في المئة. إلا أن ما يتجاهله الكثيرون عمدا أن المستثمرين ورؤوس الأموال لن تتدفق على لبنان ما لم يتم إصلاح المصارف بشكل عقلاني. ذلك أن قطع المصارف المراسلة علاقتها مع المحلية نتيجة بقائها في "المنطقة الرمادية"، أو كـ"زومبي بنك" سيفشّل كل العملية". وهذا التضليل مرده بحسب ضاهر إلى "تعّمد أصحاب المصلحة ممن استفادوا سابقا على ظهر المودعين والاقتصاد، التهرب من تحمل المسؤولية ورفض التخلي عن مكتسباتهم. وهذا ما قد يردد صداه النواب لاحقا عند مناقشة القانونين حماية لمصالحهم ايضاً".

التحدي اليوم "ألا ننجر إلى لعبة بعض المتضررين بسحب النقاش إلى قعر التفاصيل لإفشال القوانين"، من وجهة نظر ضاهر. "فصحيح أن بعض المواد كان يمكن إقرارها بشكل أفضل، إلا أن الشكل العام الذي خرجت به يعتبر مقبولاً، ويؤسس لعملية إصلاح جدية". وفيما عدا ذلك من تسويق لفكرة التصدي لمعالجة صندوق النقد للأزمة القائمة على شطب الودائع، وللعب دور البطولة بالتصدي لها انطلاقا من حماية الدستور للملكية الشخصية، سيكون ذراً لرماد الإصلاح في عيون الاقتصاد، سيخرج منها المدافعون أبطال، والبلد أعمى.

الحكومة التي مارست تمرين "الإستحماء" بإقرار قانون إصلاح المصارف، ستخوض "سباق حواجز" معالجة الفجوة، فهل تجتاز المعوقات و تصل خط السباق النهائي؟