أعترف أولاً بأنني أخطأت الحساب وشططت في التقدير وفشلت في استيعاب أبعاد المزاج الشعبي الأميركي، فاعتقدت أن نائبة الرئيس كملا هاريس ستخلف الرئيس بايدن، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. أقرّ بهذا وبأنني لم أتعلّم من تجربة انتخابات 2016 حين كانت كل استطلاعات الرأي تشير إلى فوز كاسح لهيلاري كلينتون فإذا بترامب الذي صدّق استطلاعات الرأي أيضا، يفاجَأ بنتيجة الانتخابات ويفاجئ كلينتون بالفوز بدون أن يكون مستعدّا لاختيار فريق عمل سياسي خبير بالإدارة والسياسة بالسرعة الكافية. ها هو المشهد يتكرر لكن الفارق أن ترامب هذه المرّة مستعدّ.
فوز دونالد ترامب في انتخابات الأمس واكتساح الجمهوريين للكونغرس يمثلان تحوّلا كبيرا في المشهد السياسي الأميركي ويمكن عزوه إلى عدة عوامل رئيسية أثّرت في عملية اتخاذ القرار لدى الناخبين.
السخط الاقتصادي
العامل الأبرز في فوز ترامب كان الاستياء الاقتصادي الواسع بين الناخبين، إذ أفاد نحو 45 في المئة من الناخبين بأنهم في وضع مالي أسوأ مما كانوا عليه قبل أربع سنوات، وهو أعلى مستوى من الاستياء الاقتصادي منذ انتخابات 2008. هذا القلق الاقتصادي خلق رغبة قوية في التغيير بين الناخبين، وهو ما يذكّر بالظروف التي أدّت إلى فوز باراك أوباما عامذاك. نجح ترامب في تقديم نفسه كمرشح التغيير، مستفيدا من إحباط الناخبين من وضعهم الاقتصادي ومعاناة التضخم وارتفاع الأسعار والعجز عن شراء منزل أو سيارة ...
ضبط الحدود
كان هذه الموضوع في صلب خطاب ترامب ولم يحد عنه في أيّ من أنشطة حملته الانتخابية إلى حد أنه لم يتوانَ عن وصف المهاجرين بأنهم مجرمون وقتلة ومغتصبون وتجّار مخدّرات ومتاجرون بالبشر. ولم يميّز بين مهاجر شرعي ومهاجر غير شرعي. وكرر غير مرة أنه سينظّم في اليوم الأول لتسلّمه السلطة عملية إعادة جماعية لكل المهاجرين غير الشرعيين وبفرض غرامات غير مسبوقة على المكسيك معتبرا الحكومة المكسيكية شريكة في تسرّب المهاجرين إلى الولايات المتحدة.
التحولات الديموغرافية
على عكس التوقعات، حقق ترامب تقدمًا كبيرًا مع الأقليات، فحصل على دعم نحو ثلثها. هذا الأداء هو الأقوى لمرشح جمهوري منذ إعادة انتخاب جورج بوش الابن في 2004. كان ملحوظًا بشكل خاص زيادة دعم المقترعين من أصول أميركية جنوبية لترامب بنسبة 13 نقطة مقارنة بعام 2020، بما يشير إلى تحوّل كبير في هذه الفئة الديموغرافية التي لا تزال في طور النمو. هذا التحول في أنماط تصويت الأقليات لعب دورا حاسما في فوز ترامب، خاصة في الولايات المتأرجحة الرئيسية. يشير ذلك إلى أنّ جهود الحزب الجمهوري لتوسيع جاذبيته خارج قاعدته التقليدية بدأت تؤتي ثمارها.
نسبة المشاركة وحماس الناخبين
شهدت الانتخابات نسبة مشاركة عالية، إذ أدلى 83 مليون شخص بأصواتهم مبكرا. هذا المستوى من المشاركة يشير إلى حماسة كبيرة على كلا الجانبين. ومع ذلك، بدا أن قاعدة ترامب كانت متحمسة بشكل خاص، فخرجت بأعداد كبيرة في الولايات المتأرجحة الحاسمة بما أثبت قدرة ترامب على الحفاظ على قاعدته وتوسيعها رغم الجدل المحيط بفترته الرئاسية السابقة والتحديات القانونية. حماس مؤيديه تُرجم إلى نسب مشاركة عالية، خصوصا في المناطق الريفية وبين الذكور البالغين البيض غير الحاصلين على شهادات جامعية.
نقاط ضعف الحملة الديمقراطية
واجهت هاريس صعوبة في الابتعاد عن الإخفاقات المتصوَّرة لإدارة الرئيس بايدن. ورغم موجة الحماس الأولية بعد انسحاب بايدن لمصلحتها، واجهت هاريس تحديات في إقناع الناخبين المحبطين بأنها تمثل تغييرًا كبيرًا عن سياسات بايدن، وقد يكون الجدول الزمني المضغوط لحملة هاريس بعد انسحاب بايدن المتأخر قد ساهم في هذه الصعوبات. عدم قدرة الحزب الديمقراطي على تقديم رؤية موحدة وجذابة كبديل لمنصة ترامب ربما كلفه دعم المتأرجحين وحتى بعض الدوائر الديمقراطية التقليدية.
عودة ترامب إلى الرئاسة واكتساح الجمهوريين للكونغرس يمثل إعادة اصطفاف كبيرة في السياسة الأميركية.
السياسة الخارجية
إلى جانب القضايا الداخلية، برز ما اعتبره الناخبون ضعفا في صورة الولايات المتحدة وتأثيرها في العالم من خلال التردد في اتخاذ موقف قوي يسهم في حسم الحرب في أوكرانيا التي يقول الأميركيون إنها بدأت في العام 2014 بدون أن يحرّك الرئيس أوباما وقنها ساكناً. وتجلّت صورة الضعف الأميركي من خلال عجز إدارة بايدن عن كبح جماح إسرائيل وحكومتها المتطرفة وجرائمها في غزّة ولبنان. وهذا ما دفع بالصوت العربي والمسلم إلى الامتناع عن التصويت أو التصويت لترامب أو المرشح الثالث.
المشهد الإعلامي وبيئة المعلومات
واصل المشهد الإعلامي المتطور وانتشار منصات التواصل الاجتماعي أداء دور كبير في تشكيل الرأي العام. قدرة ترامب على استخدام هذه المنصات للتواصل المباشر مع قاعدته والسيطرة على خطابهه بفعالية كانت عاملًا حاسمًا. النقاشات المستمرة حول المعلومات المضللة ودور وسائل الإعلام التقليدية في التغطية السياسية أثرت أيضا في التصويت. وقد نجح ترامب في إقناع من انتخبوه بأن وسائل اللإعلام التقليدية الرئيسية منحازة ضده.
ديناميات المَجمَع الانتخابي
تمكن ترامب من تحقيق النصر عبر الفوز بهوامش ضيقة في الولايات المتأرجحة الرئيسية. تركيز حملته على ولايات مثل بنسلفانيا ونورث كارولاينا وويسكونسن، التي جعلته يتجاوز عتبة 270 صوتا انتخابيَا، أثبت أنه استراتيجية ناجحة. تبرز هذه النتيجة أهمية نظام المَجمَع الانتخابي الذي يحدّد الانتخابات الرئاسية، إذ تمكن ترامب من تحقيق النصر رغم احتمال خسارته التصويت الشعبي. لكنه في النهاية فاز في الاثنين.
ماذا عن المستقبل؟
عودة ترامب إلى الرئاسة واكتساح الجمهوريين للكونغرس يمثل إعادة اصطفاف كبيرة في السياسة الأميركية. ومن المنتطر اليوم أمران.
الأول إعادة ترتيب شاملة داخل الحزب الديمقراطي بعد وضع جانب كبير من اللوم على الرئيس بايدن لإصراره على الاستمرار في السباق بعد انتخابات 2022 ناكثا بوعده أن يكون رئيساً جسرا للجيل الجديد.
الثاني كيف سيفي ترامب بوعوده ويتعامل مع الملفات الدولية التي أثارها في حملته الانتخابية. كيف سيغلق ملف الشرق الأوسط وملف أوكرانيا ليركّز على الشرق الأقصى.
من أبرز التعليقات التي انتشرت بعد إعلان انتخاب ترامب رئيساً أنّ "الناخبين الأميركيين حصلوا على ما يستحقونه."