لم يُشكّل إدراج لبنان على اللائحة الرمادية أمرًا مفاجئًا للمراقبين ولا لمعظم المواطنين، لأنّ إدراجه على هذه اللائحة كان متوقّعًا في العام الماضي، وأجّلته مجموعة العمل المالي الدولية التي قرّرت إعطاء لبنان فرصة للقيام ببعض الإجراءات التي تعفيه من الولوج إلى هذه اللائحة. إلّا أنّ السلطة السياسية عجزت (أو لم تُرد؟!) عن القيام بهذه الإجراءات، وبالتالي كان الأمر محسومًا بالنسبة إلى مجموعة العمل المالي الدولية التي أجرت تقويمًا نصف سنوي في أيار الماضي، ووجدت أنّه لم يتغيّر أيّ شيء. بل على العكس زادت وتيرة الشبهات أو المُخالفات.

كنا قد طرحنا، الأسبوع الماضي، في مقالنا "لهذا السبب سيُدرج لبنان على اللائحة الرمادية" الأسباب التي دفعت مجموعة العمل المالي الدولية إلى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. وفي هذا المقال، نُسلّط الضوء على التداعيات المُحتملة التي قد تأخذ طابعًا مأسويًا إذا ما اندمجت بتداعيات العدوان الإسرائيلي على لبنان.

يُمكن تصنيف تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية في ثلاث فئات أساسية:

الفئة الأولى تتعلّق بالشق التجاري، أي الاستيراد والتصدير، لأنّ أيّ عملية تجارية تحتاج إلى فتح اعتماد، وهو ما يعني الطلب إلى المصارف المراسلة القيام بخدمات لمصلحة المصارف المحلية. وكان مصرف لبنان قد أعلن أنّه على الرّغم من إدراج لبنان على اللائحة الرمادية فإنّ حاكمه بالإنابة وسيم منصوري استطاع المحافظة على التعاملات مع ستة مصارف مراسلة. إلّا أنّ الحفاظ على التعاملات مع هذه المصارف لا يعني أنّ حركة الاستيراد والتصدير لن تكون من دون عواقب. فإدراج لبنان على اللائحة الرمادية يعني التشدّد في التدقيق في العمليات التجارية من لبنان وإليه، وهو ما يعني وقتاً أطول وكلفة أكبر. وما لم يُحسم حتّى الساعة هو الحديث عن موافقة البنك الدولي المسبقة على فتح الاعتمادات، وهذا يعني (إذا صحّ هذا الأمر) وقوع لبنان تحت وصاية مالية دولية بشكل أو بآخر. أضف إلى ذلك مخاوف الشركات الخارجية من التعامل مع لبنان، وهو ما قد يحرم الشركات اللبنانية من أسواق عالمية على صعيدي التصدير والاستيراد.

الفئة الثانية تتعلّق بالتحاويل المالية من لبنان وإليه، وهذه التداعيات تنصّ على التشدّد الكبير على التحاويل باتجاه لبنان ومنه. وقد أخذت بعض الدول إجراءات جذرية، إحداها دولة الكويت التي منعت مصارفها من تحويل الأموال إلى لبنان كما تُثبته الرسالة الموجّهة من إحدى شركات الأموال إلى شركة لبنانية تُصدّر إلى الكويت، تُعلمها فيها إقفال حسابها لديها بسبب منع الكويت القيام بتحاويل إلى لبنان.(أنظر الرسم البياني الرقم 1).

الرسم البياني الرقم 1).

وتبقى المخاوف من أن تعمد دول أخرى إلى اعتماد الإجراء نفسه، وهو ما يعني ضربة كبيرة للشركات اللبنانية، ولكن أيضًا للمواطن اللبناني، وصولًا إلى القطاع المصرفي. فتحاويل المُغتربين إلى ذويهم (نحو سبعة مليارات دولار أميركي سنويًا) تُشكّل أكثر من ربع الناتج المحلّي الإجمالي، وإذا ضُيّق عليها فسينجم عن ذلك، تداعيات على المواطنين. كذلك ستحدث تداعيات على القطاع المصرفي الذي يأخذ عمولات على التحاويل وعلى السحوبات النقدية، وهو ما يعني أنّ خسائر ستحلّ في هذا القطاع. في الجانب الآخر، هناك مخاوف من التضييق على الأهالي الذين يُرسلون أموالًا إلى أولادهم الذين يتلقّون تعليمهم في الخارج، حيث سيُطلب إليهم تبرير مصدر هذه الأموال.

الفئة الثالثة تتعلّق بالاستثمارات في الدرجة الأولى، وبالتمويل في الدرجة الثانية.علمًا بأنّ إعلان لبنان تعثّره عن دفع ديونه في العام 2020، وسقوط القطاع المصرفي وعدم إجراء إصلاحات، كانت كافية لوقف الاستثمارات الخارجية وإقفال باب التمويل الخارجي. إلّا أنّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سيزيد الأمور تعقيدًا من باب مخاوف المستثمرين أو الممولين من الغوص في سوقٍ لا تخلو من شبهات قد تنسحب على تصنيفهم.

يبقى القول إن ثمة سيناريو قد يكون مُرعبًا إذا ما حصل (احتمال حصوله ضئيل بحسب الحسابات التي قمنا بها) ، وهو ينصّ على شبك المعطيات الجيوسياسية والعدوان الجاري على لبنان بالمعطيات المالية ليكون لبنان خاضعًا لحصار عسكري ومالي واقتصادي قد يُطيح الكيان اللبناني. من هنا ضرورة العمل الديبلوماسي لوقف النار بأيّ ثمن.

إنّ الخروج من هذا المُستنقع يحتاج إلى وقت. لكن هناك ثلاث خطوات ضرورية لبدء عملية الخروج من الأزمة، هي:

الخطوة الأولى: إعادة هيكلة القطاع المصرفي مع الحفاظ على أموال المودعين. وهذا يحتاج إلى معايير علمية وليس سياسية، لأنّ هناك عشرات الحلول المُمكنة. وتُشكّل هذه الخطوة أساسًا في عملية استعادة الثقة بحكم أنّ مجموعة العمل المالي الدولية قالت في تقريرها في كانون الأول من العام 2023، إنّ الشبهات تأتي من القطاع غير المالي، وإن القطاع المالي مُلتزم الإجراءات التي تفرضها المجموعة.

الخطوة الثانية: وضع سقف للمعاملات النقدية (ألف دولار مثلًا لكلّ عملية) وإذا ما تخطّى حجم العملية السقف، يجب الدفع بوسائل مصرفية. هذا ما ينزع الشبهة عن الأموال التي تدور في الاقتصاد ويجعل التعامل مع الخارج أكثر سهولة بسبب خضوع الأموال لتدقيق المصارف وقسم الامتثال فيها.

الخطوة الثالثة التي ذكرها تقرير مجموعة العمل المالي الدولية، تنصّ على إعطاء القضاء استقلاليته لكي يحاسب الفاسدين والمُخالفين. وقد بيّن التقرير أن لدى الأجهزة الأمنية التي ذكرها بالاِسم (مخابرات الجيش وفرع المعلومات) كل المعلومات لتوقيف المُخالفين ومحاسبتهم، إلّا أنّ هناك تقاعصًا وضغوطًا يجعلان المساءلة والمحاسبة شبه مستحيلتين.

بالطبع، هناك خطوات أخرى يجب القيام بها، لكن هذه الخطوات الثلاث هي جوهرية لاستعادة ثقة المجتمع الدولي بالاقتصاد اللبناني وبنظامه المالي الذي تضرّر بشكل كبير نتيجة الفساد الداخلي والتطورات الجيوسياسية في المنطقة.