ستنتهي الحرب.

لنقُل بعدَ أسبوعين.

أتخيَّل اللَّحظات الأولى للمشهد الَّذي سيسود، بعدذاك.

يصحو أهلُ القرى والمدن الشَّهيدة. يتركون أماكن إيوائهم، قبل بزوغ الفجر. يهرعون إلى مدنهم وقراهم. يقفون هناك على جراحهم، وأطلال أحيائهم ومنازلهم، والذِّكريات. يحدِّدون بأدمعِهم تفاصيل المكان، ويَعدُّون في مخيلتهم الحجارة والسُّقوف، ويتظلَّلون شجرةً تعرف أصواتهم ووجوههم، واحدًا واحدًا، وإن مألومة جريحة، مرميَّة أرضًا.

تطلع الشَّمس، تمسح عن وجهها الغبار وعن جبينها دخان الحرائق، وتغسلهما بدموعِ ذوي الشُّهداء والجرحى، وأهلِ تلك القرى والمدن، وبغيثٍ أوَّلَ يمهِّد لحلول الشِّتاء.

فغدًا إذا ما أمطرت، فستمطر حزنًا، ولن يميِّز أحدٌ بين حبَّة المطر والدَّمعة. فالَّذين فارقونا، أزهروا في أرض القلب، وربيعُهم فيه دائم.

والشَّتوةُ الأولى هي الَّتي تجعل عطرَ الأرض يفوح. وعطرُ الأرض هذا هيهاتَ يغطِّي على رائحة الحزن المتملِّكِ القلب.

فالحزن يصل إلى القلب مسرعًا. وحين يستوي فيه ويرتاح، يبالغ في ارتياحه، لأنَّه يعرف أنَّ الذين نحزن عليهم، نحبُّهم كثيرًا... وهم كثر.

صحيح أنَّ قريةَ الحزن بعيدة، أبعدَ كثيرًا من ملاعب الطُّفولة، وميدان الشَّباب، ومعقل الرُّجولة، ومصنعِ الزُّنود، وحضن الأمَّهات، وحقول التَّبغ واللَّيمون والزَّيتون. لكنَّ الوصول إليها سهل... وطريقها معبَّدة بالحقد الأسوَد، ومحصَّنة في وجه العواصف والرِّياح وحتَّى الزَّلازل.

أمَّا لحظة ُالحزن فتترك أثرها فينا طويلًا. تؤذي الرُّوح، تهدُّ الجسد، تغلبه. وتنطبع على لوحة العقل غبارًا يشوِّه جمال اللَّوحة.

أهل المدن والقرى، سبق لهم أن التقَوا الحزن مرَّات، وما أحبُّوا مرَّة أن يعرفوه أو يتعرَّفوا إليه. لكنَّه، أمس، جاء ليصافح كلًّا منهم ويعانقه. هربوا منه، لكنَّه غافلهم ولحق بهم، واعترض طرقهم، وحلَّ بينهم... ضيفًا وقحًا.

ذهبت إلى سوق الحزن لتشتَري دمعة، قرَّرت أن تبكيَها حتَّى تموت.

وذات مرَّة تجرَّأت عليه أمُّ شهيد، وكلَّمته. كلامه جارح، مغمَّس بالدَّم والدَّمع، و"ما طلعت معه راس"، هي الَّتي كسرت رؤوسًا كثيرة، طَوال حياتها على جبهة الخطر الدَّائم حيث وُلدت. ساعتذاك ذهبت إلى سوق الحزن لتشتَري دمعة، قرَّرت أن تبكيَها حتَّى تموت.

ها هو إذًا، كتاب الحزن مفتوح. والصَّفحة التي تقول إنَّك طويتها فيه، تعود لتبرعمَ وتفتِّح مثل زهرة. وقدْر ما تطوي صفحات، لا تفرغ من الكتاب. قد تفرغان، أحدكما من الآخر، معًا.

وإذا كان الحزن شبيهًا بالقدر، ليلَ نهار، فليله لا نجمة فيه، ونهاره شمسٌ ساطعة، لا أحد يصدِّقها، كأنِّي بها كذبة.

تراني حين أكتب عن الحزن، يحدُّ عليَّ الحبر بكلِّ ألوانه... أشبِّهه بالورد الاصطناعيِّ في مزهريَّة العمر، لكنَّه يفوح عطرًا، وعطره بشع.

وأهل القرى يدركون أنَّ لا حزنَ لكلِّ واحِدٍ منهم، إنَّما الحزن واحدٌ للكلِّ. ويعرفون، وهم أهل خبرة وتجربة، أنَّ لقمة الحزن هي الَّتي يقال عنها إنَّها مغمسة أيضًا بالدَّم وبالدُّموع.

وإنِّي أرى الأمَّ وقد خبَّأتِ الحزن في قلبها، فإذ بدمعها وصدى النَّبضات يفضحانها.

وإنِّي أرى الأبَ، وقد خبّأ الحزن في صدره، ففضحته دمعة على باب العين وصدى الغضب العارم.

وإنِّي أرى الأطفال، وقد خَبّأوا الحزن في قلوبهم، لتفضَحهم ليس دموعهم فحسب، إنَّما دموعُ لعبهم أيضًا.

وعند أهل القرى والمدن أنَّ مواعيد الدَّمع معلَّقة على روزنامة الحزن. والسَّنةُ، في تقويمهم، دهر.

لكنَّ لسان حالهم يقول: مَن عندَه من الحزن الكثير، فليدَعْه لديه. فليحبِسْه في علبة، في قفص. فليدفِنْه، أو يرمِه في البحر. فلينْسه ويُنْسِه للآخرين.

أهل القرى والمدن لم يتسنَّ لهم وداع شهدائهم، ولم يقيموا لهم المآتم التي تليق بهم. فالوداع يوقف الدَّمع في المقل، ويملأ القلب حزنًا وغصصًا.

أنظروا إليهم وهم يحزنون، تجدوهم أقوياء فلا نخاف منهم، وضعفاء كي نحتضنهم، لأننا كثيرًا ما نحبُّهم.

***

مرت اللَّحظات الأولى للمشهد... ملأى بالحزن والمرارة والغضب.

مسح أهل القرى والمدن، كلٌّ منهم، دمعه. كتم حزنه. لم ينتظر معونةَ أحد. شمَّر عن ساعديه، وبنى من حجارة بيته المهدَّم، غرفة صغيرة، تكون مسكنه وعائلته، إلى أن يعيدَ إعمار البيت والحيِّ.

فاليوم التَّالي للحرب، أيًّا تكن النتائج، هو الغد المنتظر بين مواسم الدَّمع والدَّم. وأهل القرى والمدن يعرفون جيِّدًا أنَّ الشَّهادة لا تنزِف إلَّا أملًا ورجاءً وأيامًا لا بدَّ آتية أفضل.