لم ينقطع يوماً الصراع اللبناني الداخلي على المواقيت المكانية والزمانية للحجّ إلى السيادة. فهو مستدام وغير مرتبط بتقاطعه أحياناً مع الظروف والمناخات والمصالح الخارجية كما جرى في العام 2005 حين أفضى هذا التقاطع الى طيّ صفحة 30 عاماً من الدور السوري العسكري المباشر في لبنان. من هنا، مجحف القول إنّ مطالبة شريحة من اللبنانيين بتطبيق "الطائف" وما تلاه من قرارات دولية - وبصريح العبارة المطالبة بإنهاء الدور المسلّح لـ"حزب الله" - ناجمة عن تحريض الخارج أو الرهان على العدو الإسرائيلي.
الإشكالية المتصلة بدور سلاح "الحزب" وجدواه وتداعياته سابقة لحرب 7 تشرين الأول 2023، والتخوين للمطالبين بنزعه واتهامهم بخدمة إسرائيل هما سابقان أيضاً. فعشية هذه الحرب، كتب نائب الأمين العام لـ"الحزب" الشيخ نعيم قاسم في22/9/2023 عبر حسابه على منصة "أكس": "تحرير الأرض وحمايتها لا يتحقّقان إلّا بالسلاح، كما أنّ العدوّ الصهيوني لا يرتدع إلّا بالسلاح، وبالتالي لا بُدَّ من أن يبقى السلاح بأيدينا وأن نزيد قوتنا. من يطالب بنزع السلاح في لبنان وفلسطين، هؤلاء إنّما يطالبون بإلغاء المقاومة وإضعاف لبنان أمام العدوّ، وهذه خدمة للمشروع الإسرائيلي".
الإشكالية المتصلة بدور سلاح "الحزب" وجدواه وتداعياته سابقة لحرب 7 تشرين الأول 2023
هذا الموقف ليس بجديد، بل في صلب سردية "الحزب" وتقديسه لسلاحه. يكفي التذكير بموقف الأمين العام لـ"الحزب" الراحل السيد حسن نصرالله في 2006/01/17 أثناء استقباله وفد المجلس الوطني للإعلام: "إنّ حزب الله يمكن أن يتحمّل أيّ شيء إلّا الحديث عن قدس الأقداس، أي سلاح المقاومة، إذ يعتبر بمثابة المسّ بالشرف والكرامة والعرض". أو قوله في 8/5/2005 : "شبكة السلكي هي الجزء الأهم من سلاح المقاومة... واليد التي ستمتدّ إلى سلاح المقاومة سنقطعها".
اليوم، ثمّة إجماع لبناني على تطبيق القرار 1701 كمعبر إلزامي لوقف جنون الحرب. إلّا أنّ "الثنائي" الشيعي يعمد عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري، المكلّف من "الحزب" التفاوض باسمه، إلى الالتفاف على مضمون هذا القرار الذي ينصّ بوضوح في المادة 3 على أنّه "من الضرورة أن تبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كلّ الأراضي اللبنانية طبقاً لبنود القرارين 1559 (2004) و1680 (2006) ولبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، لممارسة سيادتها بشكل كامل، وبما يؤدّي إلى عدم وجود أيّ سلاح بدون موافقة الحكومة اللبنانية وعدم وجود أي سلطة غير تلك التي تمارسها الحكومة". ويكرّر ذلك في المادة 8: "(...) تطبيق كامل لبنود اتفاق الطائف والقرارين 1559 (2004) و1680 (2006) اللذين يطالبان بنزع أسلحة كلّ المجموعات المسلّحة في لبنان، لتصبح الدولة اللبنانية وحدها، وطبقاً لقرار الحكومة اللبنانية في 27 تموز 2006، تملك أسلحة وتمارس سلطتها في لبنان".
في هذا الإطار، يواصل بري ابتكار المصطلحات اللغوية لتفريغ الـ1701 من مضامين الـ1559 وإنكار مسألة الدعوة إلى إنهاء دور سلاح "حزب الله"، فبعد عباراته "الـ1559 صار ورانا" و "ينذكر ما ينعاد" و"الـ1701" ألغى الـ1559" أطل بمصطلح "الـ1701 ابتلع الـ1559".
إنعاشاً لذاكرة الرئيس بري يكفي العودة الى مخاض ولادة الـ1701 في العام 2006 إذ شكلت "ورقة النقاط السبع" الذي عرضها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في مؤتمر روما لمساعدة لبنان في 26/7/2006 الأساس لهذه الولادة بعدما حصدت إجماع مجلس الوزراء اللبناني الذي يضم وزراء عن "الثنائي" "حزب الله" و"أمل" والقمة الروحية المنعقدة في بكركي ومؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي. هذه الورقة تحدّثت عن الوقف الفوري والدائم للنار، وبالتزامن مع:
- إطلاق الأسرى والمحتجزين.
- انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الخطّ الأزرق وعودة النازحين إلى قراهم ومدنهم.
- التزام مجلس الأمن وضع منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت سلطة الأمم المتحدة حتى ينجز ترسيم الحدود وبسط سلطة الدولة اللبنانية على هذه الأراضي.
- بسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كامل أراضيها عبر انتشار قواها المسلحة الشرعية، ممّا سيؤدّي إلى حصر السلاح والسلطة بالدولة اللبنانية، كما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني في الطائف" (المادة 4 حرفياً).
- تعزيز القوّة الدولية التابعة للأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان وزيادة عديدها وعتادها، وتوسيع مهامها ونطاق عملها وفقاً للضرورة بهدف إطلاق العمل الإنساني العاجل وأعمال الإغاثة وتأمين الاستقرار والأمن في الجنوب..." (المادة 5 حرفياً).
- اتّخاذ الإجراءات الضرورية لإعادة العمل باتفاق الهدنة الذي وقّعه لبنان وإسرائيل في العام 1949.
- التزام المجتمع الدولي دعم لبنان على جميع الأصعدة ومساعدته على مواجهة العبء الكبير الناتج عن المأساة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
"ورقة النقاط السبع" هي خير دواء لداء إنكار "الثنائي" لما ينص عليه الـ1701 من مطالبة بتنفيذ الـ1559 والـ1680 وتالياً إنهاء الدور العسكري لـ"حزب الله".
إذاً، فإنّ مطالبة "الثنائي" اليوم بتطبيق الـ1701 من دون "زيادة أو نقصان" تعني عملياً تطبيق "ورقة النقاط السبع" التي تجسّد روحية الـ1701 الواضح في تناوله هذه النقاط عبر التشديد على تطبيق كامل بنود اتفاق "الطائف" والقرارين 1559 و1680 اللذين يطالبان بنزع أسلحة كلّ المجموعات المسلّحة في لبنان.
وسبق أن أكّد بري نفسه الإجماع الوطني على "ورقة النقاط السبع" بقوله في 6/8/2006: "لقد وافق مجلس الوزراء بالإجماع، ومجلس النواب بمكتبه ورؤساء ومقرري اللجان وبرئاسته أيضاً، على هذا المشروع للحكومة والمتعارف عليه بورقة البنود السبعة، التي طرحها الرئيس السنيورة؛ والقمّة الإسلامية أجمعت عليه، والقمة الروحية باحتضان غبطة البطريرك صفير أجمعت عليه أيضاً. كلّ الأحزاب والقوى الوطنية أجمعت أيضاً عليه، وكلّ قوى 14 آذار و8 آذار. وإذا كانوا يريدون "شي آذار جديد" كلّهم وافقوا عليه".
وعليه، فإنّ "ورقة النقاط السبع" هي خير دواء لداء إنكار "الثنائي" لما ينص عليه الـ1701 من مطالبة بتنفيذ الـ1559 والـ1680 وتالياً إنهاء الدور العسكري لـ"حزب الله".
كما أنّ خير دواء لإنكار "الثنائي" المطالبة الوطنية الواسعة بفصل مصير رئاسة الجمهورية عن وقف إطلاق النار، هو البيان الختامي للقمة الروحية المسيحية - الإسلامية في الصرح البطريركي في بكركي في 16/10/2024، والذي نصّ في البند 3 منه على "قيام مجلس النواب، وفوراً، بالشروع في انتخاب رئيس للجمهوريـة" تقيّداً بأحكام الدستور وتغليباً للمصلحة الوطنية وتجاوزاً للمصالح الخارجية.
كذلك خير دواء لإنكار رفض اللبنانيين قداسة سلاح "حزب الله" و "أزليته" البند 5 من بيان بكركي الذي نصّ بوضوح على ضرورة أن "تمسك الدولة بالقرار الوطني، وتُدافع عن سيادتها الوطنية وعن كرامة شعبها، وأن تكون صاحبة السلطة الوحيدة على كامل التراب اللبناني".
مواصلة "الإنكار" استمرار في سياسة "الانتحار" وتخبّط لبنان في مستنقع "الدماء والدمار"...