يرتقون شهيدًا تلوَ شهيد.
هذا على خطِّ الجبهة الأماميَّة. وذاك وهو في طريقه إلى الجبهة، وذلك أو تلك في مبنى هُدم على رأسه.
لهم أقول: أنتم لستم موتى...
أنتم تعبرون إلى فرح الفرح، تهيِّئون لنا، نحن الموتى، دربَه، لنحتفل معًا برؤية وجه الله.
دُعائي للأطفال بينكم، أن تحضُنوا الملائكة، بكلِّ ما أوتيتم من براءة، فقد يكونون في حاجة إلى بعض حنان...
***
يرتقون لأنَّهم يحبُّون... يحبُّون الله. يحبُّون وطنهم وأرضهم. يحبُّون أهلهم. والحبُّ عندهم، كالموت، الحقيقة الثَّابتة على هذه الأرض. ليس وهمًا ولا خيالًا ولا افتراضًا. إنه متوالٍ لديهم، أحاسيسَ ومشاعرَ، ما نبضَ قلب، لذا ينشدون الشَّهادة، فيرتقون إليها فرِحين.
والحبُّ، عطيَّة إلهيَّة، لذا لا يمكن أن يكون فيلمًا هوليووديًّا، وفي تلك الحال، لا يكون حبًّا، علمًا أن ما نشهده اليوم في لبنان، هوليوودي الطَّابع، ولكن برصاص غير خلَّبي، وبدم شهادة سائل، لا بـ"دواء أحمر" على الثِّياب، وبأشلاء متناثرة وبيوت مهدَّمة، لا بديكورات وأكسسوارات غبّ الطَّلب.
وهذا الحبُّ هو أجملُ ما أُعطينا كي نفرح، وأرقى ما وُهبنا كي نبذلَ، وأطيبُ ما تناولنا، كي نغفِر. وهو حالة مستمرَّة، منذ الولادة إلى الموت. لا يمكن أن يحيا المرء بلا حبّ. لذا هو دائم.
وفي ذروة العَتَمة التي تلفُّنا، كان هؤلاء الشُّهداء يدركون، عند كلِّ إطلالة شمس، أنَّ الحبَّ بيننا... وإنْ تُرجِم شهادةً.
***
ارتقَوا... وتراهم ما زالوا يرتقون.
لم يعملوا بما كتب منصور رحباني: "قال البيتُ خذوني معكم... أعطيناهُ الدَّمع ورحنا".
لم يأخذوا البيت. تركوه حيث بنوه، ولو وحيدًا حزينًا. لم يعطوه أيَّ دمعة. زفُّوا إليه دمَهم، وقالوا له: راجعون، راجعون.
***
أمعنوا في الارتقاء، شهداء الجنوب والنَّبطيَّة والبقاع والضَّاحية الجنوبيَّة والقماطيَّة والمعيصرة وأيطو والجناح والأوزاعي و...
كانوا قرأوا شعراء الجنوب، وحفظوهم عن ظهر قلب. هبَّ إليهم، من عليائه، "أميرال الطُّيور" يذكِّرهم بأنَّهم كالطُّيور، ينتظرهم الشَّجر على أحرَّ من غصن، وتُواعدهم الحفافي على كثير شوق، ويفسح لهم الفضاء في الآماد، ما يليق بأجنحتهم.
وعدوا محمَّد علي شمس الدِّين بأن يعودوا... وإنْ "بيتي متل ورقا احترقْ ما عاد عندي أهل"... فسكناهُم عباءة صوت طلال حيدر، ومأواهم حقلُ التَّبغ حيث كانوا يراقصون شتلةً منه كلَّ صباح، ويصرخ بهم "أيمن" شوقي بزيع أن احترسوا... فالذِّئب ليس بعيدًا من هنا... لم يأبهوا، وانطلقوا. وكانت "أجمل الأمَّهات"، أمَّهاتهنَّ ينتظرنهم وهم عائدون مستشهدين، فيلتقيهم فوق حسن عبدالله.
***
أدمنوا الارتقاء، فالشَّهادة إرث، كما الجبين العالي، وزرقة العينين.
أجيال جديدة من شعراء الجنوب والبقاع... حمل أبناؤها وبناتها الشُّعلة والرَّاية، وساروا على دروب القصيدة والشَّهادة للحقِّ والقضيَّة.
أتابع ما يكتبون، وجلُّهم ممن تركوا قراهم. ينشرون صورة لساحة القرية، قبل الدَّمار وبعده، مذيَّلة بكلمة "راجعون". هكذا فعلت الشَّاعرة أسيل سقلاوي، وهي تحنُّ إلى منزلها المطلِّ على ساحة قريتها دير قانون رأس العين، في قضاء صور. فاختصرت كلَّ الدُّموع والغصص وآهات الحنين ونبضات الشَّوق. وأملى عليَّ جرحُها، هذه القصيدة، الَّتي أهديها إليها:
بِساحِة الضَّيْعا... الْقَمَرْ
هَلَّقْ وِصِلْ،
تِعْبان مِنْ طول السَّفَرْ.
ما كان بِالسّاحا حَدا
وْمِتْل الْمضَيَّعْ مَقْعَدو
نَقّى حَجَرْ تَ يِسْندو...
وَيْنُنْ؟ سَأَلْ.
في حْجار
في قْزاز وْغَبايِرْ، في دَمار،
وْفي بِكي...
وْلا صَوْت رَدّ وْلا صَدى.
ما في حَدا،
راحو وباقي بْهَـ الْمَدى
مِنْ كِلّ واحِدْ مَوْعَدو
وْكاتِبْ عَ تِزْكِرْة الشّهادي... مَوْلَدو.
فَلّ الْقَمَرْ عَ دَمْعتو
وما عاد يِطْلَعْ
غَيْر عَ السّاحا الْحَزيني، بِالْمَسا،
مَطْرَحْ ما كانو
أَهْل هَـ الضَّيْعا الشَّهيدي يِقْعَدو.
***
ما أنبلهم يرتقون، وهم يعرفون ما فعلت قصيدة لمحمود درويش بالكيان الشَّيطانيِّ. خضَّت تلك القصيدة التي نظمها درويش عام 1988، في عزِّ الانتفاضة الأولى، أركان ذاك الكيان، فتُرجمت إلى اللُّغة العبرية، وتوحَّد اليسار واليمين في جبهة واحدة بحجَّة أنَّها تهدِّد الوجود الإسرائيليِّ وتدعو إلى إبادة اليهود ورحيلهم ونفيهم ورميهم في البحر. لا بل اجتمعت الكنيست عام 2014 لإصدار قرار بمنع تلك القصيدة... لكنَّ القصيدة انحفرت في الوجدان والذَّاكرة، مذذاك، وكانت ملهمًا وحافزًا، وسلاحًا أمضى من سيف وبندقيَّة.
كتب درويش تحت عنوان "عابرون في كلام عابر":
أُخْرُجُوا مِنْ أَرْضِنَا،
مِنْ بَرِّنَا... مِنْ بَحْرِنَا... مِنْ قَمْحِنَا...
مِنْ مَلْحِنَا... مِنْ جُرْحِنَا،
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَاخْرُجُوا
مِنْ مُفْرَدَاتِ الذَّاكِرَةْ
أَيُّهَا الْمَارُّونَ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْعَابِرَةْ"!
وأولئك المرتقون يردِّدون معه اليوم، من عليائهم، عن أبناء الشيطان الأصغر: عابرون في دخانٍ عابر. عابرونَ في دويٍّ عابر. عابرون كصدًى عابر.
***
تحيَّة أخيرة لهؤلاء المرتقين، ببيتٍ من قصيدة سعيد عقل، في الأخطل الصَّغير، ألقاها في 28 كانون الأول 1969 في قصر الأونيسكو. بيت من أربعة أبيات ارتجلها شاعر "كما الأعمدة"، وختم بها تلك القصيدة العصماء، فدان من أنكروا المسيح وسعوا إلى إدانته وصلبه. قال شاعر "رندلى":
يَسُوعُ، أَرْضُكَ أَرْضِي، خُطَّ مَوْعِدَهَا
تَجِدْنِيَ السَّيْفَ، إِنْ خَانُوهُ، لَمْ أَخُنِ.