تنصّ أدبيات الاقتصاد الحر على وجود أهداف اقتصادية يتعيّن على كل اقتصاد مُحاولة تحقيقها لضمان استدامة رخاء الشعب من خلال العمل.
من هذه الأهداف:
- الكفاءة الاقتصادية، وهي عبارة عن وضعية يستحيل فيها خلق إجمالي رفاهية أكبر من الموارد المتاحة.
- الحرية التي تنصّ على تمتّع الأفراد بحريّة تأمين وحماية مواردهم البشرية وأعمالهم وممتلكاتهم الخاصة.
- النمو الاقتصادي، وهو الزيادة في القدرة الانتاجية للبلد، حيث تُقاس من خلال مقارنة الناتج القومي الإجمالي في العام الجاري بالناتج القومي الإجمالي في العام السابق.
- الاستقرار الاقتصادي الذي يُترجم بنظام اقتصادي لا يُظهِر سوى تقلّبات طفيفة في نمو الناتج، ومعدّل تضخّم منخفض باستمرار.
- المساواة، إذ يجب أن يكون هناك توزيع عادل للثروة والدخل في المجتمع من خلال إتاحة الفرص لكلّ فرد في المساهمة في الاقتصاد (مداخيل من العمل وليس من الإعانة).
بالطبع، يحسّن هذا كله استخدام الموارد المتاحة في الاقتصاد. لكن الواقع يُظهر أنّ هناك أوقاتًا قد تكون بعض الموارد غير صالحة للاستخدام بسبب سوء الجدولة أو سوء النية. وتُعتبر التدفّقات المالية غير المشروعة، والتي تدخل في خانة سوء النيّة لاحتكار الموارد المالية بهدف إثراء أفراد على حساب رفاهية الاقتصاد، جزءًا من الأفعال التي تُطيح هذه الأهداف. وتُعدّ الدول النامية الأكثر معاناة من التدفقات المالية غير المشروعة، ولبنان هو إحداها حيث بدأ حجم التدفقات المالية غير المشروعة يكوّن مشكلة كبيرة لاقتصاده ويحرمه من إمكانات ضخمة للاستثمار، وهو أمر حيوي لكل اقتصاد.
ثلاثية الفساد والتجارة والجريمة
قبل الأزمة التي عصفت بلبنان في العام 2019، كان القطاع غير الرسمي يُشكّل ما نسبته 36% من حجم الاقتصاد اللبناني. ومع تمدّد الأزمة وضرب القطاع المصرفي وفقدان الثقة به من قبل اللاعبين الاقتصاديين، ظهر إلى العلن نقص كبير في السيطرة على المعاملات التجارية، فأدّى إلى انفلاش القطاع غير الرسمي إلى أكثر من 80% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي.
يشكّل الفساد الأداة الرئيسية التي يستخدمها مشغّلو التدفّقات المالية غير المشروعة لتسهيل مهمتهم. وقبل الأزمة، كانت تقديراتنا لحجم هذا الفساد نحو 10 مليارات دولار، بما في ذلك التدفقات المالية غير المشروعة والتهرب الضريبي… بالإضافة إلى كلفة خسارة الفرص الاقتصادية. وتُمثّل الخدمات مصدرًا للتمويل غير المباشر لعدم قدرة المسؤولين على إثبات التنفيذ الفعّال للمعاملة التجارية. وهنا الأمثلة كثيرة، ولا تتسع هذه العجالة للتطرق إليها. ونكتفي بمثال واحد عن شركة تعمل وسيطًا بين شركة أخشاب أوكرانية ودولة أفريقية.
الأرقام تفضح المستور
بحسب الأرقام، نرى أنّ استدامة دولة ماليًا في ظلّ اقتصاد مفتوح تفرض مُعادلة أن يكون ميزان الحساب الجاري قريبًا من الصفر في عملية حفظ توازن. مُقارنة مدخول الدولة اللبنانية (القطاعان العام والخاص) الصادر عن البنك الدولي منذ العام 2002 إلى العام 2019، باستهلاك الأسر واستهلاك الحكومة، يُظهر أنّ الاستهلاك أكبر من المدخول. وهنا يُطرح السؤال عن مصدر الأموال الباقية التي موّلت الاستيراد الذي يُعتبر البند الأكبر في عجز ميزان المدفوعات والمُستمر حتّى الساعة (أي 4 سنوات ونصف السنة على بدء الأزمة) على الوتيرة نفسها برغم انخفاض الناتج المحلّي الإجمالي إلى حدوده الدنيا مع 17 مليار دولار حاليًا مُقارنة بـ 54 مليارًا قبل الأزمة.
أولى الخطوات هي إعادة هيكلة القطاع المصرفي ووضع سقف لعمليات الكاش وضبط الحدود ومُحاربة التهريب والتهرّب الضريبي والفساد
الكاش "مشبوه"
عمليًا، كلّ بلد يتعرّض لنكسة كالتي تعرّض لها لبنان في العامين 2019 و2020، يكون حكمًا عرضةً للتفقير. وحتى أرقام المؤسسات الدولية توقّعت ذلك. إلّا أنّ الواقع على الأرض تبدّل في العام 2022 إذ شهد لبنان انتعاشًا غير مسبوق في حجم الكتلة النقدية بالدولار الأميركي، وهذا ما أثار حفيظة المؤسسات الدولية. وقوّم البنك الدولي حجم الاقتصاد غير الرسمي وقدّره بـ 46% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، ووجّهت إنذارات إلى لبنان باحتمال وضعه على اللائحة الرمادية إذا لم تتم السيطرة على الاقتصاد غير الرسمي.
هذه السيطرة لم تتمّ. ولم تأخذ السلطات اللبنانية أيّة إجراءات فعلية لمحاربة اقتصاد الكاش الذي تفاقم بشكلٍ كبير بين العامين 2022 و2024. وبحسب تقرير مجموعة العمل المالي الدولية، التي مقرّها باريس، يشكّل القطاع غير المالي في لبنان خطرًا على النظام المالي العالمي من خلال عمليات الاستيراد التي قدّ تؤدّي إلى دخول أموال مشبوهة إلى ذلك النظام، وهو ما لا يُمكن القبول به. لذا اتُّخذ القرار ولو بشكلٍ غير رسمي (القرار الرسمي سيصدر في أواخر هذا الشهر) بوضع لبنان على اللائحة الرمادية، وهذا ما يعني أنّه بات بلدًا عالي المخاطر في ما يخصّ التعاملات التجارية والمالية (نقص في إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب).
تداعيات ملموسة
من غير المنطقي القول إنّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لن يواجه تعقيدات. فالتداعيات الأولية ستشمل (وهي بدأت) التحاويل من لبنان وإليه، بحيث يصبح كلّ شخص يُرسل مالًا مُلزمًا بالتصريح عن مصدره. وفي البلدان الأخرى يتمّ التدقيق في سجلّ الضرائب. ومن التداعيات أيضًا زيادة كلفة العملية والوقت المطلوب لإنجازها بحكم الوقت المطلوب للتدقيق في العمليات. كذلك يُمكن ذكر أمر لم يُصرّح عنه علنًا ألا وهو شرط الحصول على موافقة البنك الدولي لأيّ عملية فتح اعتماد بهدف الاستيراد. ولم يستطع التزام مصرف لبنان والمصارف التجارية بمتطلّبات مجموعة العمل المالي الدولية وقف إدراج لبنان على اللائحة الرمادية نظرًا إلى أنّ المخاطر تأتي من القطاع غير الرسمي، والذي ذكر تقرير المجموعة الصادر في كانون الأول من العام الماضي بعض هذه القطاعات، مثل تجارة الذهب والفساد في الإدارة العامة وغيرها.
الإجراءات المطلوبة
من البديهي القول إنّ أولى الخطوات هي إعادة هيكلة القطاع المصرفي ووضع سقف لعمليات الكاش وضبط الحدود ومُحاربة التهريب والتهرّب الضريبي والفساد. هذه الخطوات كلها تتطلّب إعادة تكوين السلطة التنفيذية وإعطاء القضاء اللبناني إستقلاليته عن السلطة السياسية.