في مثل هذه الأيام، قبل خمس سنوات، اندلعت شرارة حراك 17 تشرين في لبنان، عندما خرج الآلاف من المواطنين إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم من مظاهر الفساد المستشري، وسوء إدارة البلاد، والفشل الاقتصادي الذي كان يطاردهم. تلك اللحظات كانت مفعمة بالأمل، إذ رُفعت مطالب العدالة الاجتماعية والإصلاح، وتمسّك المتظاهرون بشعار "كلّن يعني كلن"، في إشارة إلى رغبتهم في محاسبة كلّ المسؤولين السياسيين، بغضّ النّظر عن انتماءاتهم الطائفية والحزبية.
لكن بعد مرور خمس سنوات، ما الذي تغيّر؟
يعيش لبنان، اليوم، في ظلّ القصف والدمار، وتوالي الأزمات المختلفة من اقتصادية وإنسانية وسياسية وعسكرية، فيما المسؤولون يتنصّلون من مسؤولياتهم ويتقاذفون الاتهامات في مشهد يعكس عجزهم عن تحمّل أعباء المرحلة الراهنة.
عبَر حراك 17 تشرين
على الرّغم من أنّ الحراك لم يحقّق نتائج ملموسة على صعيد التغيير السياسي العميق، لأسباب كثيرة لا مجال هنا للخوض فيها، قدّم إلى اللبنانيين والعالم دروسًا مهمّة، هي:
1. الوعي الشعبي المتزايد: أدرك اللبنانيون خلال حراك 17 تشرين أنّ القضايا التي يواجهونها ليست فردية أو طائفية، بل ناتجة من نظام سياسي واقتصادي مترهّل ومتشابك مع الفساد، أدى إلى تحفيز وعي جماهيري بأنّ الحل يبدأ من تغيير هذه المنظومة كاملة.
2. وحدة المطالب: لأوّل مرة منذ عقود، توحّد اللبنانيون بمختلف أطيافهم في وجه الطبقة الحاكمة. كانت مطالبهم مشتركة: إنهاء الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والمطالبة بحكومة قادرة على إنقاذ البلاد.
لبنان اليوم: تحت القصف والتفكك السياسي
اليوم، يمرّ لبنان بمرحلة حرجة أخرى، لكن هذه المرة تحت "نيران القصف الإسرائيلي" على المدنيين والبنية التحتية. هذه الحرب، التي ألحقت بالبلاد أضرارًا فادحة تخطّت إلى الآن الـ13 مليار دولار، زادت من معاناة اللبنانيين الذين يواجهون أساسًا أزمات اقتصادية خانقة، إذ ارتفع معدّل الفقر في لبنان نحو ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44 في المئة من مجموع السكان، وفقًا لتقرير جديد للبنك الدولي. فيما وصلت نسبة البطالة إلى 29.6 في المئة في عام 2022 مقارنة بـ 11.4 في المئة بين عامَي 2018 و2019 بحسب تقرير منظمة العمل الدولية، الذي اعتبر هذه الزيادة خطيرة ومقلقة.
يضاف إلى هذا الواقع ازدياد أعداد المهاجرين. فخلال 11 عامًا هاجر من لبنان 626 ألف مواطن، أي ما يعادل 12 في المئة من مجموع السكان، 70 في المئة منهم من فئة الشباب تراوح أعمارهم بين 25 و40 عامًا.
ففي عام 2023 وحده ارتفع عدد المهاجرين إلى 180 ألفًا مقابل 59 ألفًا في عام 2022 بحسب "الدولية للمعلومات"، فكانت هذه الهجرة هي الموجة الخامسة من سلسلة الهجرات التي عاشها اللبنانيون في تاريخهم، وهي الأعلى على الإطلاق.
وعلى الرّغم من سوداوية المشهد السياسي والأمني والاقتصادي، يواصل السياسيون تقاذف المسؤوليات والهروب من المحاسبة. تنصّلهم من المسؤوليات في مواجهة الأزمات المتعددة يجعل الوضع أكثر تعقيدًا. فلا حلول مطروحة ولا رؤية واضحة للخروج من النفق المظلم. فبدلًا من توحيد الجهود لمواجهة التحديات الكبرى، انغمس فرقاء في الصراعات الداخلية على حساب مصالح الشعب. في المقابل، يهدّد شبح الحرب الأهلية اللبنانيين، إذ يخشى مراقبون أن يؤدي الشحن الطائفي والاستثمار في الحرب إلى توسعة الشرخ في صفوف اللبنانيين، وبالتالي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة.
هل تغيرت آمال اللبنانيين؟
على الرّغم من هذه المعاناة القاسية، ما زال هناك جزء من اللبنانيين يتمسّك بالأمل في التغيير. روح حراك 17 تشرين لم تنته تمامًا. الشباب، والناشطون، والعديد من الفئات الشعبية لا يزالون يؤمنون بأنّ لبنان قادر على النهوض من جديد، ولكن ليس قبل أن تتغير المنظومة السياسية التي قادته إلى حافة الهاوية.
ذاك الحراك علّم اللبنانيين أنّ التغيير ليس بالأمر السهل، وأكد لهم أيضًا أن الوعي الشعبي هو سلاح قوي. ما يحتاجه لبنان، اليوم، ليس إعادة بناء ما تهدم فحسب، بل كذلك إعادة بناء الثقة بين الدولة والشعب، ومؤسسات قادرة على خدمة المواطنين بمعزل عن المحاصصة والفساد.
في هذا الإطار، قال لـ"الصفا نيوز" الناشط السياسي والصحافي محمود فقيه وعضو المكتب السياسي في تحالف وطني "الذكرى الخامسة عشرة لثورة 17 تشرين مناسبة للتأمل في مسارها وتطوراتها. عندما نتحدث عن ذكرى، فإنّنا، ويا للأسف، نعترف بأنّ هذه الثورة توقفت عند حد معيّن من التطور والتفاعل. وهذا يجعلنا بعيدين عن الواقع. اليوم، هناك واقع يفرض نفسه من خلال الفراغ في المناصب أو من خلال عودة القوى التقليدية إلى الساحة السياسية، رغم أننا حققنا إنجازًا جزئيًا في وجود 11 نائبًا يمثّلون الثورة. إلّا أنّ ما يفرض نفسه أيضًا هو العدوان الذي يتعرّض له لبنان، والصراع الدائر في المنطقة".
وتابع فقيه "ما يحدث، اليوم، يتجاوز الشأن اللبناني، فالحرب الإسرائيلية الجارية تجعلنا نؤمن أكثر فأكثر بصحة مطالبنا، خاصة أن الدولة القوية هي التي تهتم بشعبها في جميع الظروف، وتحميه من العدوان وتؤمّن مقومات الصمود. نمرّ بظروف حرجة تؤكد أهمية ما كنا ننادي به. على الرغم من ذلك، أؤمن بثورة 17 تشرين، ولكن يجب الاعتراف بأنّ العديد من القوى استغلّت هذه الثورة لتصفية حساباتها الداخلية".
عندما ننتقد الثورة، يجب أن نعترف بأننا فشلنا في عدة محطات، يضيف فقيه، "أبرزها في التوحد خلال الانتخابات، إذ أصبحت الكتلة المعارضة تمثل أفرادًا لا يعبّرون عن الثورة. هم خرجوا من رحم الثورة، لكنهم لا يعبّرون عن قرار مشترك. كل منهم يتصرف حسب مصالحه الشخصية، لعدم وجود ميثاق أو جبهة موحدة تعبّر عن الثورة. الحلم، اليوم، هو أن تكون هناك منصّة تعبّر عن هذه المعارضة بعيدًا عن القوى الحزبية والطائفية التقليدية، لأنّ هذه الثورة تسمو فوق كل الطوائف".
"أما عن ذكرى 17 تشرين، فقد مرّت من دون أن نفعل شيئًا ملموسًا" يقول فقيه، "لأن هناك مناطف تتعرض للعدوان، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
في سياق متصل، اعتبرت الناشطة الحقوقية جوزفين زغيب في حديثها لـ"الصفا نيوز" أنّه "في ذكرى مرور خمس سنوات على ثورة 17 تشرين، نقف في محطة تأمل وتقييم لما حدث وما لم يحدث، لما تم تحقيقه وما أُجهض، والأهمّ لما يجب أن نتعلّمه للمستقبل، ونحن تحت القصف الإسرائيلي. الثورة التي أطلقت شرارتها صرخاتُ الغضب ضد الفساد والمحاصصة الطائفية والفشل الاقتصادي، لم تكن مجرد حركة شعبية، بل كانت تعبيرًا صادقًا عن تطلع الشعب اللبناني إلى العدالة والكرامة".
وتابعت زغيب "بعد خمس سنوات، لا يزال النظام السياسي الذي واجهناه في ذلك الوقت قائمًا، بل ازداد تصلبًا في ممارساته. لم يتحقّق الكثير من المطالب التي رفعها الشارع، لكن الثورة ليست مجرد نتائج فورية، بل هي عملية تغيير ثقافي واجتماعي طويل الأمد. لذا، ما يجب أن نتعلمه هو أن التغيير الحقيقي لا يأتي بين ليلة وضحاها. الثورة علمتنا أنّ الشعب هو مصدر الشرعية، وأنّه قادر على تحدّي الطغيان مهما بدت الأمور مستحيلة. علمتنا أيضًا أهمية الوحدة الوطنية والتعالي على الانقسامات الطائفية والسياسية. ومع ذلك، يجب أن نعترف أنّ الثورة كشفت ضعفنا في التنظيم والاستمرارية، وهو درس مهم يجب أن نعيه في المستقبل".
وأضافت "على القوى الشبابية والمجتمع المدني التعلّم من الأخطاء الماضية من أجل تشكيل بديل حقيقي وفعال للنظام القائم. لا يمكن أن نسمح بأن تكون ثورة 17 تشرين مجرد ذكرى عابرة، بل يجب أن تكون نقطة انطلاق نحو بناء لبنان جديد يقوم على أساس العدالة الاجتماعية، والمساواة، والديمقراطية الحقيقية"، خاتمةً "فلنتعلم، ولنستمر في النضال، لأن المستقبل يصنعه الأمل والإصرار على التغيير".
بعد خمس سنوات مرّت على حراك 17 تشرين، لا بد من أخذ فرصة للتفكير في العبر والدروس التي يمكن استخلاصها. لبنان يواجه تحديات غير مسبوقة، لكن روح التغيير التي أشعلها الحراك لا تزال حية. ربما السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة هو العودة إلى القيم الأساسية التي طالب بها المتظاهرون: العدالة، والشفافية، والمحاسبة، وأهمها نبذ الطائفية. لعلّ هذه الشعارات تسعفنا في هذه المرحلة الحساسة وتنقذنا من حرب أهلية.