كانَ في القبرِ وحيدًا. وَراحَ القبرُ يمتلئُ، فعرفَ أنَّ الحربَ بدأَتْ... أوِ انتهَتْ! لمْ يَقلقْ. بلْ غطَّ في موتٍ عميقٍ، حتَّى القِيامة.

هكذا خُيِّل إليه في رقاده الطَّويل، إلى أن سمع أمس، شكوى على باب المقبرة، مغمَّسة بالغُصَّة والدَّمع.

أصاخ سمعًا. فإذا برجل كهلٍ، آلمه أن تتعرَّض مقابر البلدة للقصف الشَّيطانيِّ، يصرخُ بحسرة، وهو متوكِّئ على باب مقبرة: شو عاملين مع نتانياهو نحن؟ شو الموتى عم يحاربوه كمان؟

هنا والده، هنا أمُّه، شقيقه، أقاربه، انتُكهت حُرمتُهم، وهم راقدون في سلام، ولم يمرَّ في بال أحد أنَّ الهمجيَّة ستطرق باب السكون، لتكتب ربما عليه، كما كان يكتب عناصر ميليشيات الحرب على الجدران: (الشَّيطان الأصغر)... مرَّ من هنا.

لعلَّ حسرة ذاك الكهل على باب تلك المقبرة، تختصر لا إنسانيَّة الشَّيطان الأصغر، وتعاليه على أيِّ شرعة دوليَّة وأيِّ قانون أو ميثاق أو معاهدة، يمسح بها كلِّها حذاءه، ويمضي في غيِّه وغطرسته.

لم يكفِه أنَّ الضَّوء الأخضر المعطى له من الشَّيطان الأكبر، وصمت الغرب، في معظمه، لا بل تواطؤه، قضى على أخضرِ لبنان، وسوَّى منازله بالأرض، وملأ فضاءه دخانًا ونارًا، وجعل مدنه وقراه الجنوبيَّة والبقاعيَّة الهانئة الوادعة مسكنًا للأشباح، وفتك بأهله أو هجَّرهم وشرَّدهم... كأنِّي به لم يشبع من جُثث الشُّهداء، ولم يرتوِ من دمائهم، فقصد المقابر، ليقضيَ على من ماتوا قبلًا، ثانِية.

هل يموت المرء مرَّتين؟ وأيُّ بطولة أن "تتمرجل" طائرة حربيَّة متطوِّرة جدًّا، أميركيَّة الصُّنع، يقودها طيَّار إسرائيلي، على العظام الرَّميم، أو الرُّفات، أو صمت القبور؟ هل وظَّف أحدٌ الشَّيطان الأصغر حفَّارًا لتلك القبور؟ وهل أرسل عملاءه، ليسرقوا الموتى، هو الَّذي سرق الأرض وهتك العرض وعمَّم البغض؟

كانت المقبرة تستقبل كلَّ مدَّة، أحد المتوفِّين... فراح الموتى يفدون إليها عائلات عائلات، وهم شهداء مجازر تسقط الأبنية على رؤوسهم، أو سقوف منازلهم البسيطة، فتُغمِّس آخر لقمة أكلوها بالخوف والغبار، وتشلِّع كتبَ الأطفال ودفاترهم، وقد رسموا عليها أحلامهم، وتُفتِّت سُبحةَ صلاة في يد عجوز، أو تمزِّق سجَّادة صلاة...

هممتُ لأعانقَ الكهل الحزين على موتاه المنتهَكة حرمتُهم... وأخفِّفَ عنه. رمقني بنظرة العارف العتيق، وقال: أتصدِّق أنَّ ما حدث من مسؤوليَّة الشَّيطان وحده؟ ألم تلحظ أنَّني حين أعدتُ باب المقبرة إلى مكانه، لا بل أعدت ترتيبَ كلِّ شيء، كي يفرحَ الموتى... دفنت هنا الضَّمير العالمي؟

***

الرَّصاصة

وسط مشهديَّة الحرب الموجعة، تُطلُّ امرأةٌ بِرأسِهَا منْ كوَّةِ ملجإٍ، أوْ منْ خلفِ بناءٍ مهدومٍ، أوْ منْ وحشةِ منزلٍ خالٍ، إِلَّا منْ علاماتِ الاستفهامِ، متخطِّيةً كلَّ العوائق.

تُطلُّ المرأة على طاولات الاجتماعات والقمم الدَّوليَّة والعربيَّة، تسألُ عنْ وطنِها، تفتِّشُ بينَ أَوراقِ المجتمعين عنْ غدِهِ، عنْ لونِ الفرحِ الَّذي سَرَقَتْهُ ثيابُ التَّشرُّدِ وَالحدادِ وَهدَّتْهُ الحربُ، وَتوقِفُ عمرَها الهاربَ وَتستعيدُ صِباها وَابنَها الشَّهيد.

فقدْ قيلَ لها إِنَّ الكبارَ كالآلهةِ يستطيعونَ كلَّ شيء. فصَدَّقَتْ...

وَنامَتْ في رصاصةِ قنَّاص.

***

الصَّدى:

... انتهت الحرب. وعندما عادَ إِلى قريتِهِ الخارجةِ منْها، بعدَ طولِ غيابٍ، وقفَ على سطحِ منزلِهِ، وَنادى على أهلِه. نادى أوَّلَ مرَّةٍ، لمْ يُجِبْ أحد. كرَّرَ النِّداءَ، لمْ يُجِبْ أحد...

بلى، سمعَ صوتًا. فرحَ، ثمَّ نادى وَنادى، فكانَ صدى صوتِهِ الطَّالعِ منْ وادٍ يدلُّهُ إِلى حيثُ ذووهُ وَأهلُ قريتِه.

لحقَ بالصَّدى وَجمَّعَه. ثمَّ وضعَهُ باقةَ زنبقٍ على أضرحتِهِمْ حيثُ انتظرَ أنْ تحينَ ساعتُه. وَرحلَ، سعيدًا، لملاقاتِهِم.

***

التُّراب:

كان الفتى، في مدرسته، يقرأ قصَّة عن الحرب الَّتي عاشتها قريته.

قرأ: "ماتوا جميعًا. لمْ يمشِ في جنازتِهِمْ أحد. لمْ يَبْكِهِمْ أحد".

لم يستغربِ الطِّفل ما حدث. لأنَّه عرف أنَّ الزَّمان، وحدَهُ الزَّمان، يُقيمُ كلَّ عامٍ جنَّازًا عنْ راحةِ نفوسِهِم، وَأنَّ السَّماءَ وحدَها تبكيهِم. وَما زالَتْ قبورُهُمُ الفاغرةُ أبوابَها، منذُ زمنٍ، لضمِّهِمْ، تنتظرُهُم.

لكنَّهُمْ، همْ، في التُّرابِ هانئونَ، نازلونَ في عمقِ التُّرابِ، وَإِلى صمتِ التُّرابِ، عائدونَ، عائِدون.

هؤلاء أهلُه، ومن غيره يعرفهم؟