لا أخلاقيات ولا عدالة ولا حقوق تحكم لعبة الدول، بل موازين قوى ومصالح. لذا أعظم اتفاق مهما كان محصّناً دولياً وداخلياً، وأهمّ قرار مهما تمتّع بزخم، فقد يسكنان الأدراج سنوات. ولكنْ واهم من يظنّ أنّهما يموتان إذ، بلحظة سياسية، قد يعودان إلى الواجهة ويطبّقان بلمح البصر. لذا في غالب الأحيان تُحصّل حقوق الشعوب وتُؤمّن العدالة الأممية في "غفلة من زمن تقاطع المصالح".

خير دليل على هذه المعادلة في تاريخ لبنان الحديث هو "اتفاق الطائف" الذي حظي بإجماع أممي، عربي وغربي، وبتوافق لبناني باستثناء الجنرال ميشال عون. وبعد اجتياح الرئيس العراقي صدام حسين للكويت في 2/8/1990 أسرع الرئيس السوري يومذاك حافظ الأسد إلى الإعلان عن انخراط جيشه في صفوف "قوات التحالف" الدولية لتحرير الكويت، فأدّى ذلك إلى مكافأته عبر تسليم لبنان إليه عمليّاً. تفنّن الأسد في تشويه "الطائف" وتفصيله على مقاس مصالحه.

في لحظة دولية عقب تراكم للأحداث عالمياً (من انسحاب إسرائيل من لبنان في 25 أيار2000 إلى أحداث "11 أيلول 2001" وحرب الخليج الثالثة عام 2003 ) ترافقت مع حراك داخلي تصاعدي (من "نداء أيلول" للمطارنة الموارنة في العام 2000 وولادة لقاء "قرنة شهوان" في 2001 إلى بوادر لقاءات البريستول 2004 وحراك اللوبي اللبناني السيادي في عواصم القرار) أبصر القرار 1559 النور في 2/9/2004 تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة المعنون "في حلّ النزاعات حلاً سلمياً".

طبّق القرار 1559 في الشق المتعلّق بالبعد السوري المباشر مع انسحاب الجيش السوري في 26 نيسان 2005 إذ نفّذت المادة 2 منه، وهي تنص على: "یطالب جمیع القوات الأجنبیة المتبقیة بالانسحاب من لبنان". أمّا الشق المحلّي الذي يحمل بعداً سورياً وإيرانياً غير مباشر متمثلاً بـ"حزب الله" كفصيل لبناني مسلح و"الفصائل الفلسطينية المسلّحة، فلم يطبّق برغم أنّ القرار نصّ بوضوح عليه:

المادة 1: یؤكّد مجدّداً مطالبته بالاحترام التام لسیادة لبنان وسلامته الإقلیمیة ووحدته واستقلاله السیاسي تحت سلطة حكومة لبنان وحدها من دون منازع في جمیع أنحاء لبنان.

المادة 3: یدعو إلى حلّ جمیع المیلیشیات اللبنانیة وغیر اللبنانیة ونزع سلاحها.

ما حال دون تطبيقه هو محاولة فريق "14 آذار" استيعاب "حزب الله" عبر الحوار وإقناعه بتطبيق ذلك، وبإنهاء مفاعيل الانقلاب على الطائف. فكانت طاولة الحوار في ساحة النجمة عام 2006. وهي استولدت استرخاء داخلياً وشكّلت "تنفيسة" للضغط الدولي، وكانت "ورقة مار مخايل" بين "الحزب" و"التيار الوطني الحر" الذي وفّر غطاء مسيحياً له، وكانت "حرب تموز" 2006 التي انتهت بولادة القرار 1701 الذي احتل الصدارة على حساب 1559 وإن نصّ عليه. وفيما كان لبنان في مستنقع من الاغتيالات والتفجيرات والتعطيل، جاء "7 أيار" 2008 واستخدام "حزب الله" سلاحه في الداخل في انقلاب على ما تبقّى من الـ1559.

سئم المجتمع الدولي التعاطي مع لبنان دولة ما قبل "8 أكتوبر"، كما سئم اللبنانيون أن يكونوا ضحية حروب ومغامرات متكرّرة. 

منذ "8 أكتوبر" 2023 وتفرّد "حزب الله" بفتح جبهة الجنوب، كان الانقلاب هذه المرّة على القرار 1701 الذي أفضى الى استقرار شبه تام جنوباً وعبّد الطريق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. اليوم، بعد عام على هذه الحرب وبعد إهدار فرص المساعي الدولية والجهود الديبلوماسية طوال الأشهر الماضية، أصبح لبنان في عين العاصفة الدموية ولم يبقَ أمامه إلّا التمسّك بالقرار 1701 كاملاً كفرصة لمحاولة فرملة مكينة الحرب الإسرائيلية.

إزاء مشهدية غزّة التي تتسلّل في الأيام الأخيرة سريعاً إلى لبنان، كّل لبنان، وليس إلى جنوبه فحسب، وبعد إهدار السلطة اللبنانية عاماً كاملاً، استفاقت اليوم على ضرورة التطبيق الفوري للقرار 1701. لكنّها لم تغادر مربّع المراوغة الكلامية عبر الاكتفاء بشقّ وقف إطلاق النار فيه ومحاولة إهمال البعد السيادي المتمثل في دعوته إلى تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة كالـ1559 و1680 و"الطائف". السلطة اللبنانية اليوم تتمثّل عملياً في رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يلعب دوراً مزدوجاً كممثل للسلطة التشريعية و"نافذة" "حزب الله" إلى المجتمع الدولي، في حين أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يسير بمواقفه "بدروة بري" خصوصاً أنّه أعلن منذ اللحظة الأولى لـ"8 أكتوبر" أنّ "لا حول ولا قوة" لحكومته، فقرارها في الحرب والسلم بيد "حزب الله"، ولا رغبة في استعادته بل إشادة بما اعتبره "حكمة" "حزب الله" في الميدان المتمثّلة في اعتماد ما سمي "قواعد اشتباك".

إزاء مشهدية غزّة التي تتسلّل في الأيام الأخيرة سريعاً إلى لبنان، استفاقت اليوم على ضرورة التطبيق الفوري للقرار 1701. لكنّها لم تغادر مربّع المراوغة الكلامية. 

دهاء بري دفعه إلى القول في حديث إلى قناة "الجديد" في 10/10/2024 إنّ "القرار الوحيد هو 1701، أمّا القرار 1559 فصار ورانا و"ينذكر ما ينعاد". لم يكتف بذلك بل ذهب أبعد في حديث لـ "الجريدة" الكويتية في 13/10/2024 بقوله "الكلام عن القرار 1559 هو كلام سياسي، لأنّ "1701" ألغى "1559". ولدى سؤاله عن اعتبار أنّ "1701" بُني على أساس "1559"، قال: "غير صحيح، أنا عملت على الـ1701 مع ديفيد وولش، وكلّ القرارات الدولية في مقدّمتها يتم ذكر القرارات التي سبقتها، ولكن منذ عام 2006 يلتزم لبنان الـ1701 وهو القرار الوحيد الساري، لذلك لا أحد يتحدث بالـ1559".

إنّه اجتهاد غير مسبوق يطمح بري عبره الى العودة إلى ما قبل "8 أكتوبر"، أي الاكتفاء بوقف إطلاق النار الذي كان أمّنه الـ1701 وتفريغه مجدّداً من مضمونه وهو كان نصّ بوضوح في المادتين:

المادة 3: من الضرورة أن تبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كلّ الأراضي اللبنانية طبقاً لبنود القرارين 1559 (2004) و1680 (2006) ولبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، لممارسة سيادتها بشكل كامل، وبما يؤدّي إلى عدم وجود أيّ سلاح بدون موافقة الحكومة اللبنانية وعدم وجود أي سلطة غير تلك التي تمارسها الحكومة.

المادة 8: (...) تطبيق كامل لبنود اتفاق الطائف والقرارين 1559 (2004) و1680 (2006) اللذين يطالبان بنزع أسلحة كلّ المجموعات المسلّحة في لبنان، لتصبح الدولة اللبنانية وحدها وطبقاً لقرار الحكومة اللبنانية في 27 تموز 2006، تملك أسلحة وتمارس سلطتها في لبنان.

يتناسى بري أنّ مجلس الأمن الدولي يعقد كلّ 6 أشهر جلسة إحاطة متعلّقة بالقرار 1559 لمتابعة سبل تطبيقه، وهو يدرك جيداً أنّه إن كان 1701 مدخلاً لوقف إطلاق النار، فالـ1559 مدخل لإنهاء ظاهرة السلاح غير الشرعي، وتالياً تطبيق "الطائف" والعبور إلى الدولة.

الإحاطة الدولية يرافقها في هذا الوقت احتضان داخلي متصاعد. الأمر لا يقتصر على المعارضة، وما جاء في بيان نوابها الـ31، ولا على لقاء معراب 2 ومقاربته الواضحة للخروج من مستنقع الدماء والدمار الذي يغرق فيه لبنان اليوم عبر تطبيق القرارين 1559 و1701 بعيداً عن منطق "الغالب والمغلوب".

موقف "الثنائي" بلسان بري لا يلقى رواجاً عند باقي المكونات. فحتى صديقه الصدوق وأكثر الحذرين في العواصف الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط أكّد في 7/10/2024 عبر الـ LBCI: "نتحدث باسم المواطن اللبناني الذي يتعرض للتهجير والاستباحة والتدمير في الجنوب، لذلك يجب تطبيق 1701 و1559"، وهو المتمسك بفصل مصير لبنان عن مصير عزة.

لقد سئم المجتمع الدولي التعاطي مع لبنان دولة ما قبل "8 أكتوبر"، كما سئم اللبنانيون أن يكونوا ضحية حروب ومغامرات متكرّرة كلّ بضع سنوات. فما يعيشه لبنان اليوم لا يمكن أن يقارن لا بحرب تموز 2006 ولا بأيّ مرحلة أخرى. أمّا مروحة الحلول فتضيق وتسير قدماً إلى حلّ واحد أحد هو الركون إلى الدولة في لبنان عبر تطبيق القرارات الدولية بما فيها الـ1701 والـ1680 والـ1559 التي هي بمنزلة مراسم تطبيقية لاتفاق "الطائف". لذا فالإطاحة بهذه القرارات هي إطاحة بأيّ فرصة لوقف الحرب ونزيف الدماء والنزوح والدمار. فهل من يجرؤ على أن يحمل على منكبيه دمار لبنان وقتل أهله وتهجيرهم؟