لم يبقَ من هذا العالم، إلَّا أن أفترَضه عالمًا، وقد درَجَتْ، هذه الأيام، العوالم الافتراضَّية. فما كان حقيقة، ورغبنا فيه حقيقة، إنَّما خذلَنا ليصبح هو الافتراض، زمن أخذْنا على العالم الافتراضي "كذبته".
ولم يبقَ من العرب – حكَّامِهم وأنظمتِهم – إلَّا اللُّغة العربية وإعرابُها. خلعوا عنهم عباءة المروءة. أغمدوا سيوفهم النَّاعسة. نزعوا خيامهم، ووضعوها في صناديق سيَّاراتهم الفارهة، من دون أن يرحلوا إلَّا إلى صحارى نفوسهم، بعيدًا عن كلِّ همٍّ وغمٍّ...
ولم يبقَ من الأمَّة إلَّا تعريٌف جامد أنَّها مجموعة بشرَّية شاءت في زمن واحد وعلى أرض واحد أن تعيش معًا، تحكمها آمال وآلام مشتركة. فالرَّغبة في العيش معًا لم تعد قائمة، على ما ينادي البعض. أمَّا الزمن فأزمنة، لكلٍّ منها توقيت على ساعة هذه الدَّولة أو تلك. وأمَّا الآمال والآلام، فكلٌّ يغني على ليلاه، ولا مشترك بينها إلَّا الصُّراخ المكتوم.
ولم يبقَ من القيم الإنسانيَّة إلَّا بعضُها، وقد فات واضعي الشَّرائع والمواثيق الدَّوليَّة، جديدَهم والقديم، أن يذكِّروا بأنَّ بعض تلك القيم يرتكز في وضوحٍ على القواعد العربيَّة والإعراب: فالعدالة كمثل "جملة صلة الموصول" لا محلَّ لها... من الإعراب. والحرّيّة كمثل "جملةٍ اعتراضيَّةٍ" بين أوَّل شريعة غابٍ سنَّتها قبائل ما قبل التَّاريخ، وآخر شريعة غابٍ معمولٍ بها إلى ما قبل يومِ القيامة بلحظة. وحقوق الإنسان كمثل "جملةٍ إسميَّةٍ" غير فصيحةٍ لأنَّ لا فعل فيها.
والكذب هو دائمًا "صفةٌ مشبَّهةٌ"... بالسِّياسة. والدُّول العظمى أو الكبرى أو الجبَّارة ليست إلَّا "أفعالًا متعدِّيةً"... ومعتدية. وبعض سياسات الدُّول "الكبرى" المذكورة أعلاه أشبه بـ "لا النَّافية للجنس"... البشريّ. وأفضل المبادئ اللُّغويّة العربيَّة عند الشُّعوب المقهورة، "باب النُّدبة". وكثرٌ هم رجال السِّياسة المعرَّفة أسماؤهم مسبقًا، فلا يستحقُّون أن يكونوا حتّى "نكرةً"، لأنَّهم جامدون... ومتحجِّرون. كلَّما قرأتَ مشروعًا سياسيًّا لهذا الحزب أو لذاك السِّياسيِّ أو لذلك الزَّعيم الوطنيِّ، أكثر من استخدام "علاماتِ الاستفهام" في مخيَّلتك.
وليس ضروريًّا أن يقع كلُّ "استثناءٍ" بعد أداة "إلَّا"... لأنَّ دولًا كبرى صادرت كمِّيَّاتٍ كبيرةً من الاستثناءات بحجَّة إتلافها.
وغالبيّة أنظمة الحكم في العالم، يتولّاها حكّامٌ معرّفون بـ "أل" الدَّم، أو "أل الكذب"! وعليه تكون الشُّعوب دائمًا "نكرةً"... مسحوقةً!
أعظم حاكمٍ في التَّاريخ... يجرُّه حرف.
وثمّة حكّامٌ تكثر في أسمائهم "حروف العلَّة"، وحكَّامٌ هم همُ العلَّة... من دون حروف.
والطَّاغية كمثل ألف "همزة الوصل" و"ألف الإطلاق"، يحسب نفسه البداية والنِّهاية، لكنَّه في الحالين لا يُلفظ. بلى. يلفظه التّاريخ.
وواهمٌ من يظنُّ أنَّ التَّاريخ يكتبه المنتصرون، على ذوقهم ومزاجهم. فقد فاته أنَّ ما من مخفيٍّ إلَّا ويظهر. هذا ما علَّمنا إيَّاه التَّاريخ، ولو "تآمر" طويلًا مع كتَّابه وصانعيه.
والشَّامتون، وما أكثرهم وأحقرهم، كمثل "الحروف المشبَّهة بالفعل". لا يقدرون على الفعل فيتشبَّهون به، ولكن ممسوخين. أمَّا الأبطال فكمثل الشُّعراء، وحدهم يحقُّ لهم ما لا يحقُّ لغيرهم... حتَّى الشَّهادة حقٌّ لهم وحدهم.
تبقى الأمم المتَّحدة... تلك الأضحوكة العالميَّة التي لا تفعل شيئًا إلَّا التَّعبير عن قلقها، ولكن فورًا. تسكت ولا تنبِس ببنت شفة، حين يعتلي منبرَها مندوب الشَّيطان الأصغر، ويمزِّق شرعتها... لا هو رفَّ له جفن، ولا هي أحسَّت أنَّ كرامتها توجَّعت. لا بل تَعدُّ الحكومة الشَّيطانيَّة الأمين العامَّ للمنظَّمة الدَّوليَّة شخصًا غير مرغوب فيه، فلا احتجَّ أحد، ولا تألَّم جبين. وثمَّة من يستغرب فجور الشَّيطان الأصغر، وسط مجتمع دوليٍّ، هذه هي أممه المتَّحدة.
وتبقى جامعة الدُّول العربيَّة التي تعبِّر أيضًا عن قلقها، ولكن بعد مدَّة. هل نسينا أنَّها لم تجتمع، للاعتراض على الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، إلَّا بعد مرور شهرين على ذاك الاجتياح.
وتبقى حكومة لبنان... كحال طوارئها التي أعدَّتها، حبرًا ناشفًا على ورق.
وتبقى المساعدات الدَّوليَّة والإقليميَّة... فحجمها كلُّها مجتمعةً لا يساوي ثمن طلعات جوِّيَّة يفجِّر فيها الشَّيطان الأصغر حقدَه على مبنى أو حيٍّ... لا المساعدة تُسمن وتغني من جوع، فيما الطَّلعة الجوية تنهشُ في الجسد اللُّبنانيِّ وتعربد.
ويبقى لبنان، بجنوبه وبقاعه ونبطيَّته وضاحيته الجنوبيَّة، وحتَّى عاصمته، وبعض قراه المتفرِّقة، وبكلِّ آلامه وآماله المشتركة وشهدائه وجرحاه ومهجَّريه ودماره... يبقى الشَّهيد الحيَّ، يقول للموت ولشيطانيه الأصغر والأكبر: لن تغلباني.