فيما الميدان الحربي يشتعل على مساحة الـ10452 كلم2 مع مرور عام على عملية "طوفان الاقصى على وقع زلزال اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله وغارات إسرائيلية جنونية متواصلة وهرولة لاستنساخ مشهدية غزة المأسوية في لبنان من حيث "تسونامي الدماء والدمار" الذي يخلّف عشرات الضحايا يومياً، ويسوّي بلدات وأحياء بالأرض، ويهجّر أكثر من مليون ومئتي لبناني من أحضان بيوتهم وذكرياتهم ومصادر رزقهم، أطلّ رئيس مجلس النواب نبيه بري متحصّناً برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والرئيس السابق للحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط ليرمي قنابل صوتية ودخانية في الميدان الرئاسي كأننا نملك ترف الوقت للمناكفات والمناورات.

فمن النقاط التي تضمنها البيان الصادر عن لقاء "الترويكا" المنعقد في 5/10/2024، دعوة إلى انتخاب "رئيس وفاقي للجمهورية يطمئن الجميع ويبدد هواجسهم". كان سبق ذلك لقاء بين بري وميقاتي في عين التينة 30/9/2024 حيث نقل الأخير عن رئيس المجلس تأكيده أن "فور حصول وقف إطلاق النار ستتم دعوة مجلس النواب الى انتخاب رئيس توافقي وليس رئيس تحدٍّ لأحد" واعتباره أن "هذا الأمر هو من الإيجابيات التي يجب أن نستفيد منها في أسرع وقت من أجل استقامة المؤسسات الدستورية واكتمال عقدها وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة".

لوهلة ظنّ بعضهم أنّ هذا الموقف هو "قنبلة إيجابية" كونه أسقط شرط الحوار كمعبر إلزامي لدعوة بري الى جلسة انتخاب الرئيس، وكون مجرّد تحديد صفات الرئيس بأن يكون "وفاقياً يطمئن الجميع ويبدد هواجسهم" و"ليس رئيس تحدّ لأحد"، يعني عملياً التخلي عن تمسك "الثنائي الشيعي" بترشيح رئيس "تيار المرده" سليمان فرنجية. فالأخير ليس رئيساً وفاقياً ولا يطمئن الجميع ولا يبدّد الهواجس كونه:

* يعتبر مرشح تحدٍ في نظر الفريق المعارض لحزب الله، فهو يتباهى بأنه طرف لا بل رأس حربة في "الخط" وإحدى ركائز فريق الممانعة في لبنان.

* يجسّد بطروحاته ومواقفه وممارساته استمراراً لمساعي تكريس مشروع "حزب الله" وسطوة سلاحه وتفرّده بقرار الحرب والسلم وصولاً الى "وحدة الساحات" في الحرب الدائرة اليوم.

* يزيد من منسوب الهواجس من استمرار نهج أهل السلطة في لبنان منذ الطائف حتى اليوم، كونه يشكّل أحد رموز هذه السلطة. فهذا النهج الذي قام على الزبائنية والمحاصصة وعلى صناديق ومجالس الهدر والفساد وعلى انتهاك الدستور والقوانين أو الالتفاف عليها، هو من ساهم في إيصال لبنان الى الانهيار غير المسبوق.

"القوات اللبنانية" التي تدرك أن أي إيجابية جدية من "الثنائي" الشيعي على الصعيد الرئاسي تتطلب أولاً تحديد موعد فوري لجلسة انتخاب رئيس للجمهورية في جلسات متتالية، لم تغرق في نقاش ما أسمته "الترويكا" خارطة طريق للحل. لقد ظهر ذلك جلياً في ما سمعه النائب وائل ابو فاعور خلال زيارته معراب في 3/10/2024 موفداً من جنبلاط لنقل وجهة نظر "الترويكا" إذ أعلن أن "النقطة الثانية في خارطة الطريق التي اتُّفق عليها تمحورت حول ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في ظل المستجدات الكثيرة التي يمكن البناء عليها لإنهاء الفراغ الرئاسي، ولا سيما أن موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري مرن جدّاً، ويُعوَّل عليه بعدما زالت الاعتبارات والتحفظات والاشتراطات نتيجة الظروف القائمة. وبالتالي، نعتقد أنّه بات هناك أساس سياسي مرن يمكن البناء عليه".

وأكدت معراب في بيان بالتزامن مع زيارة أبو فاعور أن "القوات اللبنانيّة شاركت في الجلسات الانتخابيّة كلّها منذ سنتين حتى الآن، وأعلنت استعدادها لحضور أيّ جلسة يوجِّه الدعوة إليها رئيس المجلس النيابي"، مذكّرة بأن "مَن عطّل الجلسات في دورتها الثانية هو الممانعة، ومَن لم يعد يوجِّه الدعوات إلى جلسات انتخابيّة رئاسيّة هو الممانعة". "القوات" شدّدت على أنها "جاهزة في أيّ وقت للتجاوب مع دعوة رئيس المجلس إلى جلسة انتخابيّة فعليّة بدورات متتالية حتى انتخاب رئيس للجمهوريّة".

لكن سرعان ما تبيّن أنّ ما انطوى عليه بيان "الترويكا" من إيجابية ليس أكثر من قنابل صوتية ودخانية تعمّد بري رميها لإظهار إيجابية مصطنعة وللتنصّل من مسؤوليته عن تعطيل الاستحقاق الرئاسي، أو ربما لجس النبض داخلياً وخارجياً. فكما انقلب على إيجابيته من مبادرة "تكتّل الاعتدال الوطني" وراح يغرقها في الشروط، كذلك انقلب بري على ما نقله عنه ميقاتي عبر القول إن "لا شيء يمنع أن يكون فرنجية توافقي" واشتراط بتأمين 86 صوتاً ليس لتأمين نصاب الجلسة بل لانتخاب رئيس. أما بالنسبة إلى التخلي عن الحوار، فهو "عم يبيع الناس من كيسهم" كون هذا الحوار في الأساس لم يكن قابلاً للحياة جراء رفض قوى المعارضة وعلى رأسها "القوات اللبنانية" الانجرار الى هذا المستنقع على حساب تطبيق الدستور.

لذا قطع نواب "قوى المعارضة" في مؤتمر صحافي عقدوه في 7/10/2024 لطرح رؤيتهم المشتركة لإنقاذ لبنان من آتون الحرب وتبعاتها وإعادة بناء مؤسسات الدولة -وحجر زاوية هذه الرؤية أولاً "إتخاذ الحكومة اللبنانية القرار بفصل لبنان عن أي مسارات اقليمية أخرى" - الطريق على فخوخ بري القائمة على إيجابيات كلامية في الملف الرئاسي من دون تحديد أي موعد عملياً عبر مطالبتهم بـ"تحديد موعد فوري ثابت ونهائي لجلسة انتخاب رئيس للجمهورية، من قبل رئيس مجلس النواب، بدورات متتالية وفق المواد 49 و73 و74 من الدستور من دون شروط وخلق أعراف دستورية أو سياسية، لانتخاب رئيس إصلاحي سيادي انقاذي يصون الدستور وسيادة لبنان".

في خضم الوضع القائم اليوم، كانت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الى بيروت والمواقف التي أطلقها من وحدة الساحات والأولوية المطلقة لخوض الحرب، أو وحدة وقف إطلاق النار أشبه بـ"إعطاء أمر اليوم". فجاء بعدها موقف نائب الأمين العام لـ"الحزب" الشيخ نعيم قاسم في 8/10/2024 ارتداداً للموقف الايراني ومطيحاً بسلاسة حراك بري عبر "الترويكا". فقال: "نحن لنا ملء الثقة بقيادة الأخ الأكبر الأستاذ نبيه بري أنت الأكبر في نظر الأمين العام واعلم أنك الأخ الأكبر في نظر كل "حزب الله". نؤيد الحراك السياسي الذي يقوده بري بعنوانه الأساس وقف إطلاق النار (...) قبل وقف إطلاق النار أي نقاش آخر لا محل له بالنسبة إلينا". يتبين مما تقدم أن إمكان تمرير استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية غير وارد في قاموس "حزب الله" قبل وقف الحرب أو انتهائها. هذا الموقف أسقط ما كان يروج له "الحزب" من عدم ربطه مصير الاستحقاق الرئاسي بمصير وقف إطلاق النار والحرب الدائرة.


جاء موقف نائب الأمين العام لـ"الحزب" الشيخ نعيم قاسم ارتداداً للموقف الايراني ومطيحاً بسلاسة حراك بري عبر "الترويكا"...

فهل يدفع هذا الواقع بجنبلاط الى إعادة تموضعه على صعيد الحراك الرئاسي والانتقال من خارطة طريق "الترويكا" التي نسفها قاسم الى معسكر المعارضة وخارطة طريقها التي طرحتها تحت عنوان "الرؤية المشتركة لإنقاذ لبنان"؟

هل يفعلها جنبلاط بعدما تبين أن لـ"الحزب" شروطاً لانتخاب الرئيس وصديقه بري إما متمسك بمجاراة "الحزب" أو ربما عاجز عن انتقاد خياراته و"لا حول ولا قوة له" وأن طهران ومعها "الحزب" لن يفرجان عن الرئاسة ما دام التوصّل الى وقف إطلاق النار لم يحصل؟

هل يفعلها جنبلاط بعدما تبين أن لـ"الحزب" شروطاً لانتخاب الرئيس وصديقه بري إما متمسك بمجاراة "الحزب" أو ربما عاجز عن انتقاد خياراته

هل يفعلها ويعطي المعارضة زخماً كما فعل عشية ولادة القرار 1559 واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري و"ثورة الارز"؟ أم لا يزال ينتظر أن تلتقط "أنتاناته" متغيرات دولية حاسمة، أو أن يتبخّر القلق الذي يسكنه من إمكان تدفيعه على الارض ثمن معارضته جمع مصير لبنان بمصير غزة؟