أمّا وقد ردّت إيران على اغتيال إسماعيل هنيّة بعد شهرين، واغتيال نائب "فيلق القدس" عبّاس نيلفروشان والسيّد حسن نصرالله بعد أسبوع، والصورة التي جاء بها الرد لناحية طبيعته ونتائجه، فإن السؤال عمّا إذا كنّا على أبواب حرب واسعة أو شاملة عاد يطرح نفسه بقوة بعد أسابيع بل أشهر على استبعاده وحذفه من الاحتمالات والتحليلات.

ولكن، بعد انقشاع غبار الصواريخ الإيرانية وخفوت ضجيجها ورفع إسرائيل حالة الطوارىء وعودة حركة الطيران المدني إلى سياقها الطبيعي، بعد ساعات قليلة من الردّ، عاد الحديث عن الضوابط الدولية والإيرانية والإسرائيلية التي تُعقلن الردود بما فيها الردّ الذي تلوّح به إسرائيل، وعاد الكلام على دور "المايسترو الأكبر" - واشنطن في برمجة الجموح الإسرائيلي من جهة، وهندسة الدور الإيراني ضمن حدود المفاوضات المستمرة على قدم وساق مع طهران.

ولا يغيّر لجوء "الجمهورية الإسلامية" إلى نفي إطلاعها الإدارة الأميركية مسبقاً على الرد الصاروخي بعدما سارعت فور انتهاء الرد على الإعلان أنها أطلعتها عليه، شيئاً من حقيقة التنسيق مع مَن كان سابقاً "شيطاناً أكبر" وبات الآن "أخاً" وشريكاً في الحوار.

صحيح أن حوار طهران مع واشنطن يشكّل كابحاً، أو على الأقل عذراً، لانكفائها عن الانخراط في الحرب دعماً لوكلائها في المنطقة وخصوصاً "حزب الله" الذي تعرّض لضربات شديدة القسوة، لكنّ السبب الأعمق الذي يمنعها من هذا الانخراط المباشر هو إدراكها أنها ستكون معزولة عسكرياً، فلا روسيا ولا الصين، وهما أقرب حلفائها، في وارد خوض الحرب معها، وليس هناك دولة إقليمية تجازف في معركة غير متكافئة خصوصاً في حال اشتراك الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.

وطالما أن الحسابات البراغماتية الإيرانية منعتها من خوض حرب إنقاذ لأذرعها على مدى شهرين، رغم الانتكاسات الجسيمة المتلاحقة، اغتيالاً وتدميراً وتهجيراً ومآسي، فلماذا قرّرت الآن الرد بأسلوب إستعراضي واضح مع القول إنها تكتفي به إلّا في حال ردّت إسرائيل؟

لعلّ عاملَين أو دافعَين اضطرّاها إلى تنفيذ هذه العملية التي لم يكن لديها مفرّ منها، وبالحدّ الأدنى من التأثير والفاعلية.

الدافع الأوّل داخلي لحسم الجدل الصعب بين المتشدّدين والمعتدلين، أي بين الفريق الراغب في الحرب، من "الحرس الثوري" إلى المرشد الأعلى، والفريق الرافض لدفع أثمان ثقيلة ومباشرة دفاعاً عن الوكلاء، والذي يمثّله رئيس الجمهورية مسعود بيزيشكيان وفريق عمله.

وقد تظهّر هذا الخلاف، من طهران إلى نيويورك، في تصريحات ومواقف تعكس شيئاً من التباين.

الدافع الثاني خارجي تمثّل في قوّة الأصداء الواردة إلى طهران من بيروت وصنعاء وبغداد عن امتعاض سياسي وشعبي وقيادي من البرودة الإيرانية واكتفاء قيادات رأس "محور الممانعة والمقاومة" ببيانات الاستنكار والدعم العاطفي والتهديد اللفظي والإشادة بالتضحيات. وقد بلغ الامتعاض حدّ التشكيك العلني في صدقية هذا الرأس والتزامه.

لذلك، وجدت القيادة الإيرانية نفسها مضطرة، بل مُجبَرة، على القيام بعمل ما من شأنه احتواء النقمة وترميم ثقة أذرعها بعدما اهتزّت بعمق وكادت تتبدّد.

وبالفعل، نال الرد الإيراني ترحيباً فورياً من بيئة "حزب الله" المصدومة والمتعطّشة للثأر، أو على الأقل للعزاء وإنعاش الأمل، وترجمت هذا الترحيب بفوّهات البنادق المبتهجة، وبأصوات المحلّلين والناطقين باسم "الحزب".

إلى أيّ استنتاج تُفضي هذه القراءة لحدث الردّ الإيراني وحيثياته؟

لا شكّ في أن ما جرى يشكّل تطوراً ميدانياً قد يبرّر لجوء إسرائيل إلى ردّ نوعي واستدراج إيران إلى حرب شاملة، خلال الشهر الحسّاس المتبقّي قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكنّ واشنطن سارعت إلى التخفيف من هجوم طهران وتحدّثت عن "عدم فاعليته" مع إشارتها إلى ضرورة "محاسبته"، كي تسحب عذر الرد القوي من إسرائيل. وهو فعلاً كان كذلك خصوصاً لجهة عدم وقوع ضحايا أو دمار كبير.

ما جرى يشكّل تطوراً ميدانياً قد يبرّر لجوء إسرائيل إلى ردّ نوعي واستدراج إيران إلى حرب شاملة...

كما أن إسرائيل التي كرّرت تهديدها برد قوي على إيران تابعت تركيزها على "الحزب" بموجات متتالية من الغارات الجوّية المدمّرة، ومواجهات برّية دامية على الحدود اللبنانية الجنوبية، وكأنها تقول إن حربها الفعلية هي هنا.

وهكذا تكون "الحرب الشاملة" قد عادت إلى مربّعها الأوّل في ساحتها المتفجّرة لبنان، وفي ساحات أقلّ تفجّراً من اليمن إلى العراق وسوريّا، مع استمرار "الحروب الصغيرة" في قطاع غزة.

أمّا الساحة الإيرانية فقد تنتظر الشاغل الجديد للبيت الأبيض، كي يتضح مصيرها خموداً أو التهاباً.