ها هي حرب "7 أكتوبر" تطوي عامها الأولى منهيةً حقبة في المنطقة تمهيداً لانطلاق أخرى. وها هو عام على فتح "حزب الله" جبهة الجنوب - متفرّداً بقرار الحرب- يأبى أن يمضي من دون إحداث زلزال تمثّل في اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله. زلزال حتماً ستشمل ارتداداته ليس "الحزب" وبيئته ودوره على صعيد المنطقة فحسب، بل كذلك المكوّن الشيعي بأكمله ولبنان. إلّا أنّ التاريخ علّمنا أنّه مهما شقّت الحروب عباب السنوات، فسترسو على ميناء السياسة إمّا بغالب ومغلوب، وإمّا بالتكافؤ بين المتصارعين. لذا من الأجدى تقصير عمر الحروب لتحجيم الأضرار البشرية والمادية.

اليوم، بعيداً عن الإنكار والمكابرة وعن الأيديولوجيا والعواطف، فإنّ القرار الأممي 1701 هو ممرّ إلزامي لتقصير مدة هذه الحرب، وقد يكون شرطاً ضرورياً، ولكن غير كافٍ ربما، هذا ما يؤكّده المجتمع الدولي، وقد ذكّر بذلك آخر الموفدين الدوليين إلى لبنان وزير خارجية فرنسا جان نويل بارو في مؤتمر صحافي عقده في 29/9/2024 في قصر الصنوبر، مشدّداً فيه على أنّ شروط الحلّ الديبلوماسي الدائم معروفة منذ زمن طويل وتتمثّل في السعي إلى:

* تطبيق القرار 1701 فوراً من خلال وقف الأعمال العدائية على جانبي الحدود ووقف إطلاق النار.

* انتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني.

* انسحاب المسلحين من جانب الحدود وتعزيز قدرات القوات الدولية.

* الوصول إلى حلّ بشأن الحدود البرية.

بارو الذي رأى أنّ ذلك ليس بمستحيل إذا وجدت الإرادة السياسية لدى كلا الجانبين، وكذلك لدى القيادات السياسية اللبنانية التي يتعيّن عليها العمل لتسيير المؤسسات من خلال انتخاب رئيس للجمهورية من دون أي تأخير، توجّهَ إلى رئيسي مجلس النواب نبيه بري ومجلس الوزراء نجيب ميقاتي بالقول: "تخلٍّ عن المسؤولية هو ترك البلد من دون رئيس قادر على توحيده وتمثيله، وهذا شرط للحفاظ على الوحدة والتعايش في وقت يمكن الحرب بعد سنوات من الأزمة الاقتصادية والشلل المؤسساتي أن تؤجّج التوتّرات الداخلية".

السلطة الرسمية اللبنانية التي تكرّر دوماً التزامها القرار 1701 جدّدت ذلك بلسانَي الرئيسين بري وميقاتي، إذ أكّد الأخير عقب اللقاء، الذي جمعهما بالتزامن مع وجود الوزير الفرنسي في بيروت، التزام النداء الذي صدر عن الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والاتحاد الأوروبي واليابان والمملكة العربية السعودية وقطر وألمانيا وأوستراليا وكندا وإيطاليا، والتعهّد بتطبيق جميع النقاط التي وردت فيه، ومنها وقف إطلاق النار فوراً. وقال ميقاتي: "نحن مستعدّون لتطبيق القرار 1701 كاملاً فور وقف إطلاق النار. نحن مستعدّون لإرسال الجيش إلى منطقة جنوب الليطاني ليقوم بمهامه كاملة بالتنسيق مع قوات حفظ السلام الدولية في الجنوب".

إلّا أنّ ميقاتي أجاب ردّاً على سؤال: "نحن دوماً نقول بوقف إطلاق النار على كلّ الجبهات، فمنذ ثمانية أشهر كنا نقول إنّ وقف إطلاق النار في غزة يوقف إطلاق النار في لبنان تلقائياً". ميقاتي وبري يكرّران موقفهما القائم على ربط مصير لبنان بغزة في ترجمة حرفية لموقف "حزب الله".

لا يخلو من أعراض الانفصام إعلانُ السلطات اللبنانية التزامها تطبيق القرار 1701 وربط مصير وقف الحرب في لبنان بوقف الحرب في غزة. الأصحّ هو التفاف ذاتي على موقفها، بصفة كونها دولة، والسير بركاب "الحزب". يقول ميقاتي إنّ وقف إطلاق النار في غزّة يوقف إطلاق النار في لبنان تلقائياً، فهل يعني هذا أنّه يضمن موقف إسرائيل وتوقفّها التلقائي، رغم تكرارها منذ اليوم الأول أنها تفصل بين الجبهتين؟

من قال إن لبنان وغزة "توأم سيامي"؟ فأيّ "بدعة" هذه أن تربط دولة مصيرها بمصير دولة أخرى، لا بل بصراع إقليمي في رمال متحرّكة كغزة؟ السلطة الفلسطينية نفسها في الضفة الغربية فصلت مصيرها عن مصير غزة، فهل لبنان "والي أكثر من الوالي"؟ الأمر لا يبدو سوى إضفاء شرعية على "وحدة الساحات"، فيما الحقيقة هي أنّنا إزاء واحدة تدير "الساحات" وتستثني ساحتها، وهي طهران.

انفصام أن تعلن السلطات اللبنانية التزامها تطبيق القرار 1701 وربط مصير وقف الحرب في لبنان بوقف الحرب في غزة...

لذا، على السلطة اللبنانية المتمثّلة فعلياً بشكل رئيسي في"الثنائي" الشيعي أن تحسم أمرها في مسألة فكّ ارتباط مصير لبنان بمصير غزة، كي تثبت جدّيتها في السعي إلى تطبيق القرار 1701 الذي لا ينصّ على أيّ شيء متعلّق بغزة. المطلوب خطوة جريئة شبيهة ببادرة حسن النية على الصعيد الرئاسي إذ نقل ميقاتي عن بري قوله: "فور حصول وقف إطلاق النار ستتم دعوة مجلس النواب إلى انتخاب رئيس توافقي وليس رئيس تحدٍّ لأحد". فهذا الموقف هو، عملياً، تخلٍّ رسميّ عن ترشيح رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، وكذلك عن شرط بري الحوار بضعة أيام قبل أيّ جلسة انتخاب. فإن كان ربط الدعوة إلى انتخاب الرئيس بوقف إطلاق النار يجعلها "إيجابية مع وقف التنفيذ" وقلباً للمقاييس - لأنّ المنطق يقضي بالإسراع في انتخاب رئيس كي ينكبّ على العمل لوقف إطلاق النار – تبقى تراجعاً لـ"الثنائي" عن سقوفه التعطيلية، وقد تمهّد لإمكان إعادة التموضع في مواقفه بما فيها سقف ربط مصير لبنان بغزة.

في العام 2006، حين وافق "حزب الله" على القرار 1701 كان يدرك جيداً أنّه ينطوي على فقرات تحضّ على تنفيذ القرار 1559، أي نزع سلاح "الحزب" والفصائل الفلسطينية. يومذاك راهن على التملّص من تنفيذ القرار بكليّته ونجح. فهل تردّده، اليوم، مرتبط بإدراكه أنّ تطبيق القرار هذه المرة سيكون صارماً، ولا مجال للتملّص من مضمونه؟

بعيداً عن الإنكار والمكابرة وعن الأيديولوجيا والعواطف، فإنّ القرار الأممي 1701 هو ممرّ إلزامي لتقصير مدة هذه الحرب...