أدّت الضربات الإرهابية العنيفة التي شنّتها الماكينة العسكرية الإسرائيلية على لبنان إلى تهجير مليون شخص من مكان سكنهم وتعطيل عمل آلاف الشركات، كليًا أو جزئيًا. وبحسب تقديراتنا، استطاعت هذه الهجمات جعل أكثر من 50% من اليد العاملة اللبنانية في بطالة تقنية قد يطول أمدها في حال استمرار العدوان كما هو عليه الآن، أو تطوّر إلى الأسوأ. وهو ما يعني أنّ لبنان سيكون على موعد، العام الجاري والعام المقبل، مع تراجع حاد في نمو الاقتصاد الرسمي.

حتّى تاريخ ما قبل الضربات الإسرائيلية، كانت التوقّعات المتعلقة بالاقتصاد اللبناني الرسمي تميل إلى تراجع النمو أكثر من 5%. أمّا توقّعات نموّ الاقتصاد غير الرسمي، فكانت إيجابية ونسبتها من 2 إلى 3 بالمئة. إلّا أنّ الضربات التي قام بها العدوّ الإسرائيلي زادت التوقّعات سوءاً في ما يخص الاقتصاد الرسمي أو غير الرسمي، خصوصًا أنّ الواقع الاقتصادي كان، في الأساس، مُعقّدًا في ظلّ غياب الإصلاحات المطلوبة من قبل المُجتمع الدولي، واستطرادًا غياب الاستثمارات.

اللائحة الرمادية

من المتوقّع أن تصدر في الأيام أو الأسابيع المطلة قرارات مجموعة العمل المالي الدولية في ما خصّ اللوائح الرمادية والسوداء (أي لوائح البلدان غير المتعاونة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب). وتُشير المُعطيات كلها إلى أنّ لبنان سيٌدرج على اللائحة الرمادية بسبب حجم اقتصاد الكاش (أكثر من 50% من حجم الاقتصاد) فيه منذ العام 2022، بعدما نتج من تعثّر القطاع المصرفي وغياب ثقة المودعين بهذا القطاع، وكذلك بسبب غياب الإجراءات الحكومية التي تُكافح اقتصاد الكاش.

عمليًا، لن يؤدي إدراج لبنان على اللائحة الرمادية (وهو أمر شبه محسوم) إلى قطع أوصال لبنان مع المصارف المراسلة بعد المفاوضات التي قام بها حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري مع المؤسسات الدولية وعواصم القرار. إلّا أنّ هذه العلاقات لن تكون، كما في السابق، إذ ستؤخذ موافقة مُسبقة من قبل البنك الدولي (أغلب الظن) على كلّ عملية فتح اعتماد للاستيراد. عدا أنّ المصرف المركزي سيكون مُلزمًا التشدّد في التحقّق من مصدر الأموال التي ستوضع في المصارف اللبنانية بهدف الاستيراد. أضف إلى ذلك أنّ تحاويل المُغتربين والخدمات التي تُقدّمها بعض الشركات والأفراد اللبنانيين إلى الخارج، ستكون موضع تدقيق وتشدّد من قبل السلطات الرقابية الدولية، وهو ما يعني التضييق على حركة دخول العملة الصعبة إلى لبنان، وتاليًا على حركة الاستيراد التي ستتطلّب وقتًا أطول وكلفة أعلى.

للعدوان الإسرائيلي على لبنان انعكاسات اقتصادية مباشرة (خسائر مباشرة) وغير مباشرة (غياب الفرص الاقتصادية). 

غياب الإصلاحات

الأزمة السياسية التي تعصف بلبنان منذ أكثر من أربع سنوات، جمّدت القرارات الحكومية في ما يخص الإصلاحات التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي الذي يُعتبر الاتفاق معه شرطًا أساسيًا لبدء تدفّق المُساعدات والاستثمارات إلى لبنان. وكلّ مرّة تطرح حكومة تصريف الأعمال مشروع قانون، تأتي الضربة إمّا من داخل الحكومة أو من خارجها، وهو ما يدلّ على عدم التوافق بين المكوّنات السياسية على الإصلاحات التي يجب القيام بها. ولعلّ أزمة الودائع هي المُشكلة الأساسية التي تخفق الحكومة في حلّها، خصوصًا أنّ جميع الطروحات التي تقدّمت بها مبنية على تحميل المودعين كلفة التعثّر المالي، وهو أمرٌ مرفوض جملة وتفصيلًا لما له من انعكاسات على الواقع الاجتماعي والاقتصادي. كذلك هناك مُشكلة إصلاح القطاع العام، وهي مُشكلة جوهرية (مُشكلة هيكلية) بسبب عدم قدرة الحكومة على تمويل إنفاق القطاع على نحو يُعيده إلى العمل بشكل طبيعي. وهذه المُشكلة أصبحت عقدة كبيرة في ظلّ الظروف الحالية والعدوان الإسرائيلي ونقص المداخيل.

والأصعب في الأمر أنّ مشروع موازنة العام 2025، لم يُعالج أيًا من هذه المشكلات، لا بل هو استمرار لما سبقه من موازنات ومشاريع موازنات. الجدير ذكره أن آخر موازنات ما قبل الأزمة قاربت 17 مليار دولار أميركي (32% من حجم الاقتصاد) في حين أنّ مشروع موازنة العام 2025، يبلغ 4 مليارات دولار (23% من حجم الاقتصاد)، وهو ما يعني أنّ مُساهمة الدولة في الاقتصاد تراجعت وتسبّبت في انكماش كبير لا يُمكن تعويضه من قبل القطاع الخاص، إلّا بواسطة إصلاحات اقتصادية جذرية.

العدوان الإسرائيلي

للعدوان الإسرائيلي على لبنان انعكاسات اقتصادية مباشرة (خسائر مباشرة) وغير مباشرة (غياب الفرص الاقتصادية). الخسائر المباشرة أتت عقب ضرب البنى التحتية، خصوصًا في الجنوب والبقاع، وخسارة المحاصيل الزراعية وتوقيف العمالة بحكم التهجير، ناهيك بالضرب المُبكر للقطاع السياحي. هذا كله حرم لبنان من مبالغ طائلة هي، في أقلّ تقدير، نحو عشرة مليارات دولار حتى الساعة.

من الضروري التذكير أنّ لبنان كان منافسًا شرسًا لإسرائيل على المشاريع الإقليمية، وقد حاول الأميركيون من خلال "صفقة القرن" التي عرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إعادة التوازن لمصلحة إسرائيل، إلّا أنّ مشروع ربط الهند بأوروبا عبر البر مرورًا بالأراضي المُحتلّة قضى على كلّ أمل باستقطاب لبنان مشاريع إستراتيجية إقليمية.

على أن استمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان سيزيد حكمًا من الخسائر المادية والخسائر البشرية، لذا لا بد من وقف هذا الجنون حتى يتمكّن الاقتصاد من التنفّس. استمرار هذا العدوان سيؤدّي إلى تقلّص حجم الاقتصاد الرسمي بحسب تقديراتنا أكثر من 7% هذا العام و5% في العام المُقبل (على افتراض استمرار الأمور على ما هي عليه). أمّا وقفه الفوري وبدء التعافي السياسي من خلال انتخاب رئيس للجمهورية وحكومة أصيلة فسيقلّصان الخسائر إلى 5% هذا العام. وبحسب وتيرة الإصلاحات والمُساعدات الخارجية قد نصل في العام المقبل إلى تحقيق نسبة نمو قد تفوق 3%.