منذ عملية "طوفان الأقصى (7 تشرين الأول أكتوبر 2023)، وحرب "السيوف الحديد" الإسرائيلية على قطاع غزة، وحرب "الإسناد والمشاغلة" التي شنّها "حزب الله" في اليوم التالي، كانت كل الدلائل تشير إلى أنها حرب معقدة غير سريعة الحسم، وهي ستختم عامها الأول بعد 10 أيام.
ولم يكن متوقّعاً أن تكون شبيهة بالحروب الإسرائيلية السريعة سابقاً، بسبب التطور الهائل في الوسائل والامكانات والاستعدادات وتداخل الأطراف والمؤثرات.
ما يبرر استغراقها كل هذا الوقت ليس فقط شراسة القوى المتحاربة وامتلاكها الأسلحة المتطورة والعقائد المتلاطمة، بل أيضاً وفي الأساس، أن طرفَيها يدركان أنها ستكون آخر حروب المنطقة، وأن عليهما تحقيق الممكن من مكاسب ميدانية وسياسية قبل ترتيب التسويات الواسعة وفرض الحلول.
قلنا مراراً أن أي حلً يكون أكثر سهولة بين المتحاربين المنهكين، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً بين إسرائيل و"حركة حماس" و"حزب الله" امتداداً إلى اليمن والعراق وإيران نفسها، وعبوراً فوق سوريا التي سبقت كل هذه الأطراف إلى حال الانهاك.
وما يحصل في لبنان منذ 9 أيام على الأقل يندرج في سياق الانهاك المتبادل تحت مراقبة القوى الدولية والاقليمية الفاعلة، ليس فقط أميركا وأوروبا وروسيا والصين، بل أيضاً إيران وتركيا والدول العربية.
وكأنّ الجميع يلتقي، أو يتقاطع، بل ربما يتواطأ، على إنهاك المتحاربين لإدخالهم ضعفاء في مسار الحلول.
وهنا تندرج حملات التشكيك في الانكفاء الإيراني الواضح عن خوض الحرب إلّا بالواسطة، ولا يُخفي وكلاء "الجمهورية الإسلامية" صدمتهم من مواقف الرئيس الإيراني في الأمم المتحدة واكتفاء مرجعيتهم العليا آية الله خامنئي بالتبريك لصمود "حزب الله" وعدم قدرة الاغتيالات على هزّه، متوقّعاً انتصار "المقاومة".
فالحقيقة أن إيران ضالعة في اللعبة التقليدية للأمم، وهي تستخدم أوراقها العسكرية في الحرب لتحقيق مكاسب ومصالح في السياسة والاقتصاد، وأبرز هذه المصالح ثلاث: إستعادة الأموال المحجوزة بالعقوبات، والملف النووي، والنفوذ في العالم العربي واستطراداً الإسلامي.
غير أن المصلحة الثالثة، أي النفوذ، معرّضة للارتجاج العميق ليس فقط تحت ضغط المفاوضات والمساومات مع واشنطن، بل كذلك تحت ضغط الشكوك واهتزاز الثقة وانتشار الخيبة لدى وكلائها.
وما تردّد عن كلام إسرائيلي بشأن الليطاني كحدود شمالية هو كلام قديم كمعادلة "من الفرات آلى النيل" التي تتم استعادتها أحياناً للاستخدام السياسي الدعائي وليست قابلة للتطبيق.
لكنّ الليطاني بات خطّاً لوقف النزاع تحت رعاية الوساطة الأميركية الفرنسية.
وهذه الوساطة تندفع بنشاط من جديد سواء في بيروت أو نيويورك، فهنا موفد رئاسي فرنسي وهناك سلسلة لقاءات دولية يجريها الرئيس ميقاتي والوسيط الأميركي هوكستين والرئيس الفرنسي ماكرون، وتجديد الطرح الأميركي، وتصبّ كلّها في مجرى التسويات.
وقد بات واضحاً أن الحكومة اللبنانية، ووراءها الضاحية وعين التينة، بدأت تسلّم بمرجعية واشنطن لإنقاذ لبنان من الحرب، وهذا بموافقة وبتسهيل أكيد من "حزب الله" الساعي إلى وقف كابوس المذابح، بما يُذكّر بمسعى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لإنهاء حرب تمّوز 2006 على أساس القرار 1701، وتفويض كامل من "الثنائي أمل - الحزب".
الليطاني بات خطّاً لوقف النزاع تحت رعاية الوساطة الأميركية الفرنسية...
وأشار الرئيس نبيه بري إلى انخراطه في هذه المساعي خصوصاً مع الجانب الأميركي لإحياء الطرح الذي قدّمه هوكستين قبل حرب غزة وبعدها ورفضه "حزب الله" آنذاك، بما فيه من الانسحاب مسافة معيّنة عن الحدود، لكنٌّه أبدى الشكّ في نجاح هذا المسعى، ربما بعدما تخطّته التطورات العسكرية.
وحتّى أن اقتراح وليد جنبلاط للعودة إلى وضع الهدنة 1949 يعني واقعياً التوازن على طرفَي الحدود بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي، أي بين جهتَين شرعيّتَين في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
وهكذا، فإن العودة إلى ترتيبات الهدنة مع القرار 1701 توصل إلى الوضع نفسه، أي إنهاء وجود قوة مسلّحة غير الجيش وقوات الطوارىء الدولية. وهذا أمر بات مسلّماً به بعد "خراب البصرة".
فمن خارج هدير الطائرات وضجيج الصواريخ، ومن بين دخان الحرائق وغبار الدمار وسيول الدماء ومأساة النازحين، ترتسم آفاق الحل في لبنان، ومنه إلى الشرق الأوسط، بحيث لا يكون "اليوم التالي" نسخة عن "اليوم السابق" بل يختلف جذرياً عنه، ولا تكون هذه الحرب حلقة من سلسلة حروب امتدّت على مدى 76 عاماُ وآن لها أن "تضع أوزارها"، ولو استمرت أسابيع وأشهراً أخرى.
فلعلّها، في الواقع وفي المرتجى، تكون آخِر الحروب.