على مشارف عام من "8 تشرين الأول" وتفرّد "حزب الله" بفتح جبهة الجنوب خاطفاً قرار الحرب والسلم من يد الدولة اللبنانية، وقع المحظور وفتحت إسرائيل جهنّم إجرامها صباح 23/9/2024 محوّلة لبنان الى آتون دم ودمار وحديد ونار، إذ سقط جرّاء جنون غاراتها نحو 500 لبناني، سوادهم الأعظم من المدنيين، وأصيب أكثر من 1500 خلال 24 ساعة. فسقط قناع "ردع إسرائيل" الذي رفعه "الحزب" لتبرير إقحام لبنان في "فذلكة" "وحدة الساحات" بعدما سقط قناع "إسناد غزة" مع انتهائها الى مستنقع دم ودمار وتحوّل "حماس" إلى "مطران على مكّة".

وقع المحظور الذي أصبح محتوماً جراء إصرار "الحزب" على الرّقص فوق برميل البارود، على إيقاع ما سمّاه "قواعد اشتباك"، وصمّ أذنيه عن التحذيرات المتكرّرة للموفدين الدوليين من أنّه من الضروري وقف جبهة الجنوب، والوقت بدأ ينفد، وهناك خياران لا ثالث لهما لدى إسرائيل، إمّا تأمين الاستقرار لشمالها بالسبل الديبلوماسية أو بالعنف.

راح "الثنائي الشيعي" يتلهّى بلعبة توزيع الأدوار جرياً على العادة. فصبيحة فتح إسرائيل لجهنّم، أطلّ رئيس مجلس النواب نبيه بري جازماً عبر صحيفة "الشرق الأوسط": "لن نقع في فخ نتنياهو الذي يراهن على استدراج "حزب الله" ليبادر إلى توسيع الحرب، وهذا ليس في محله، وسيكتشف أنّ رهانه لن يلقى التجاوب (...) نحن من جانبنا لا نريد الحرب ولن ننزلق إليها، لكن من حقّنا الدفاع عن النفس بكلّ ما أوتينا من قوة وإمكانات، ولن ندخر جهداً لتأمين مقوّمات الصمود لأهلنا في الجنوب لمنع إسرائيل من تهجيرهم".

بري الذي تمسّك بقواعد الاشتباك، طالب بتطبيق القرار 1701، بما يشبه طوق نجاة، داعياً "المجتمع الدولي إلى الضغط لتطبيقه على جانبي الحدود بإلزام إسرائيل بوقف خرقها الأجواء اللبنانية". في المقابل، كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله قد كرّر موقفه الرافض للبحث في تطبيق الـ1701 أو في وقف جبهة لبنان قبل وقف الحرب في غزة.

كذلك دعا بري الولايات المتحدة الأميركية الى أن تمارس "الضغط الكافي على نتنياهو لوقف عدوانه على لبنان". في المقابل، كان نائب نصرالله الشيخ نعيم قاسم يتّهم أميركا بـ"الدجل" معلناً في 22/9/2024 أنّ "أميركا غارقة من رأسها إلى أخمص قدميها في العدوان والإبادة مع إسرائيل".

أصبح لزاماً على "حزب الله" أن يتجرّأ ويجيب بتجرّد من العواطف والإيديولوجيات عن السؤال المشروع عن دور إيران...

اليوم، أضحى لبنان في آتون النار، ولا ينفع توزيع "الثنائي" للأدوار، ولا نظرية "الصبر الإستراتيجي" أو شعار "قواعد الاشتباك" أو رفض الاستدارج منعاً لعيش لبنان حرباً. فلا يكفي رفض طرف خوض الحرب كي لا تقع، وهي قد تتحول حرب استفزاز واستنزاف وتكون أكثر إيلاماً وتكلفة.

اليوم، أصبح لزاماً على "حزب الله" أن يتجرّأ ويجيب بتجرّد من العواطف والإيديولوجيات عن السؤال المشروع عن دور إيران بناءً على مواقف قيادتها. فبالتزامن مع فتح إسرائيل جهنم إجرامها على لبنان، وفيما "الحزب" يوقّع مقاومته في الدّم، كان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يقدّم أوراق اعتماد موقّعة بالبرغماتية إلى الغرب من أجل تأمين مصالح نظامه وتحصينه من حمم البركان المنفجر في الشرق الأوسط. فهو أكّد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك استعداد بلاده لبدء مفاوضات نووية إذا "كانت الأطراف الأخرى راغبة في ذلك".

قبله، كان رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية مسعود بزشكيان يتودّد إلى الولايات المتحدة واصفاً الأميركيين بـ"الإخوة" إذ قال في 16/9/2024: "لا نعادي الولايات المتحدة. عليهم أن يوقفوا عداءهم تجاهنا من خلال إظهار حسن نيتهم عملياً (…) نحن إخوة للأميركيين أيضاً"! فيما أفتى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي في 9/9/2024 أن "لا ضير في "التراجع التكتيكي" أمام "العدو" في بعض الأحيان"، مشيراً الى أنّ "هذا التراجع يمكن أن يكون في الميدان العسكري وفي الميدان السياسي أيضاً".

فيما "الحزب" يوقّع مقاومته بالدّم، كان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يقدّم أوراق اعتماد موقّعة بالبرغماتية إلى الغرب...

من المعيب غضّ النظر عن هذه المواقف والتصرّفات الإيرانية وممارسة الإنكار. أليس حديث بزشكيان عن أنّ الأميركيين "أخوة" هو انقلاب على توصيف مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عقب "الثورة الإسلامية" الإمام روح الله الخميني بأنّ "أميركا الشيطان الأكبر"؟! أليس تعبيد الخامنئي الطريق أمام "التراجع التكتيكي" لبلاده هو تنصّل من "وحدة الساحات" وغسل يدين "يوضاسيّ"؟! وهل ما تقوم به إيران هو لمصلحة محور الممانعة ونصرة لغزة ودعم لـ"مشاغلة" "الحزب" أم لمصلحة نظامها وبقائه وكسر أيّ طوق عنه؟!

لبنان، اليوم، يهرول نحو سيناريو غزة، لذا فإنّ نصرالله أمام خيارين. إمّا يستنسخ نموذج السنوار الذي تحوّلت معه "المقاومة" إلى "مقامرة" بالبشر والحجر في القطاع، وإمّا يكرّر تجربة تموز 2006 حين تجرّأ بعد مضي نحو 20 يوماً على الطلب من خلال الرئيس نبيه بري من الحكومة البحث عن مخارج ديبلوماسية من مستنقع الحرب الدموية.

وقُبيل وصول هذا المقال الى خواتيمه، فجّر بزشكيان موقفاً عبر الـCNN قد يكون مخرجاً لإنزال "حزب الله" عن الشجرة، قال: "حزب الله وحده لا يستطيع أن يقف في وجه دولة مسلحة تسليحاً جيداً جداً، ولديها القدرة على الوصول إلى أنظمة أسلحة تتفوق بكثير على أي شيء آخر. الآن، إذا كانت هناك حاجة، فيجب على الدول الإسلامية عقد اجتماع من أجل صياغة رد فعل على ما يحدث" (...) قبل حدوث أيّ شيء أكثر خطورة. أعتقد أنه على المنظمات الدولية (أن تجتمع) (...) يجب ألّا نسمح للبنان بأن يصبح غزة أخرى على أيدي إسرائيل. لا يستطيع حزب الله أن يفعل ذلك بمفرده. لا يستطيع حزب الله أن يقف بمفرده ضد دولة تدافع عنها وتدعمها وتغذيها الدول الغربية والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية".

هل أدرك بزشكيان الآن أنّ "حزب الله" وحده لا يستطيع أن يقف في وجه إسرائيل وتفوّقها العسكري ودعمها الدولي؟ ألم يكن الأجدى به أخذ هذه الأمور في الحسبان قبل إقحامه لبنان عبر"الحزب" في هذه الحرب؟ أين "وحدة الساحات"؟ هل يقرّ بكلامه أنّها "فوفاش" ولا جدوى منها؟ أين محور الممانعة؟ هل ينعيه بزشكيان ويعترف بأنّه "مارد من كرتون" وعاجز عن الوقوف إلى جانب "الحزب"، لذا يستنجد بالدول الإسلامية؟ هل استغاثة بزشكيان بالمنظمات الدولية إلى جانب هذه الدول الإسلامية هي لكسب الوقت ولتبرير عدم تدخّله في الميدان إنقاذاً لـ"حزب الله" و"نصرة لغزة" أم مخرج يحاول توفيره لـ"حزب الله" كي يتراجع عن حربه مع إسرائيل؟

هل يتلقّف نصرالله الفرصة ويركب زورق النجاة، فيحدّ من الخسائر ويقطع الطريق على خوضه معركة وجودية لا يمكن أن يضمن نتائجها؟ الخوف كلّ الخوف أن يكابر ولا يلجأ إلى هذه المخارج إلّا بعد فوات الأوان وتحويل لبنان إلى غزة. إنّها المسؤولية التاريخية.