تُشير آخر المعلومات التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنّ الاستخبارات الإسرائيلية هي التي صنّعت أجهزة "البايجرز"، التي انفجرت، الثلاثاء الماضي، على جميع الأراضي اللبنانية، وأودت بحياة عشرات الأشخاص مخلّفةً آلاف الجرحى الذين فقدوا أعينهم أو أصابع أيديهم. وإذا كانت الحكومة الإسرائيلية لم تؤكّد أو تنفي مسؤوليتها أو دورها في هذه العملية، فإنّ "نيويورك تايمز" تستند في تحقيقاتها إلى مسؤولين إسرائيليين، عسكريين واستخباراتيين حاليين وسابقين وصفوا العملية بـ "المُعقّدة"، وقد خُطّط لها منذ وقتٍ طويلٍ.

هذه العملية المُعقّدة وضعت الحكومة الإسرائيلية أمام مُشكلة أخلاقية، وأمام مُخالفة واضحة للقانون الدولي ومُعاهدة جنيف التي تُلزم الدول إعفاء المدنيين من أيّ عمل عسكري أو تصفيات. فالذي أخذ قرار التفجير لم يكن يعلم من يحمل الأجهزة التي فُجّرت، وهل كانت في أيدي أطفال أو كان هناك مدنيون قرب الأجهزة. وهنا تحديدًا تكمن مُخالفة القيم والمُعاهدات التي ترعى أصول الصراعات العسكرية وحماية المدنيين في مثل هذه الحالات. إلّا أنّ هذه المُشكلة – أي مُخالفة المعاهدات الدولية والأخلاق والقيم – لم تكن الوحيدة. فبهذه العملية وضعت الحكومة الإسرائيلية نفسها أمام مُشكلة ثانية قد تكون مُكلفة كثيرًا لاقتصادها.

فمعروف أنّ الاقتصاد الإسرائيلي هو اقتصاد حرّ ومتطور جدًّا، وسمح لإسرائيل بالحصول على رفاهية متقدمة، وجيش حديث قوي يقال إنّه يمتلك أسلحة نووية، وبنية تحتية حديثة تنافس بُنى العديد من الدول الغربية، وقطاعًا عالي التقنية يُنافس وادي السيليكون (Silicon Valley). وكذلك تمتلك إسرائيل ثاني أكبر عدد من الشركات الناشئة (Startups) في العالم بعد الولايات المتحدة، وثالث أكبر عدد من الشركات المدرجة في ناسداك (Nasdaq) بعد الولايات المتحدة والصين. وأنشأ عدد كبير من الشركات (نحو 400 شركة) المتعددة الجنسيات مثل إنتل ومايكروسوفت وآبل وآي بي إم وغوغل... مرافق للبحث والتطوير لها في إسرائيل معتمدةً تقنيات عالية. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإنّ حجم الاقتصاد الإسرائيلي بلغ 509 مليارات دولار أميركي في العام 2023.

ويشمل الإنتاج الإسرائيلي صنع السلع والخدمات ذات التقنيات العالية (بما في ذلك الطيران والاتصالات ومعدّات الاتصالات وأجهزة الكمبيوتر والبرمجيات والمقاولات الفضائية والدفاعية والأجهزة الطبية والألياف الضوئية والأجهزة العلمية) والمستحضرات الصيدلانية والبوتاس والفوسفات والمعادن والمنتجات الكيماوية والبلاستيك وقطع الماس، والخدمات المالية وتكرير البترول والمنسوجات. وبلغ حجم الصادرات الإسرائيلية نحو 166 مليار دولار في العام 2022، قرابة 50% منها هي معدّات تكنولوجية.

علمًا أن معركة طوفان الأقصى كبّدت الاقتصاد الإسرائيلي خسائر مباشرة وغير مباشرة تفوق الـ70 مليار دولار نتيجة انسحاب شركات كثيرة من السوق الإسرائيلية بسبب المخاطر العالية التي تتربّص بهذه الشركات كنتيجة حتمية لهذا الصراع، وبالتالي تلقّى قطاع التكنولوجيا ضربة كبيرة نتيجة طوفان الأقصى. إلّا أنّ الضربة الكبرى أتت من لبنان، وخصوصًا من عملية تفجير أجهزة "البايجرز" التي تولّت إسرائيل تصنيعها وتفخيهها وتفجيرها، وهو ما سيؤدّي إلى ضرب صدقية الصناعة التكنولوجية الإسرائيلية في نظر العالم كلّه، وذلك على مدى عقود مقبلة. فمن الآن وصاعدًا، ستحسب كلّ دولة أو شركة تشتري مُعدّات تكنولوجية من شركات إسرائيلية ألف حساب لعدم معرفتها ما وُضع في هذه المُعدّات من أجهزة تنصّت، وربّما موادّ مُتفجّرة. وفي حسابات أوّلية، سيفضي هذا الأمر إلى خسارة الاقتصاد الإسرائيلي عشرات المليارات من الدولارات، وكلّها خسائر غير مباشرة (أي خسارة عقود). وفي ما يتعلق بالدّول المُستوردة من إسرائيل، تتربّع الولايات المُتحدة الأميركية على رأس اللائحة بـ 26.4% من حجم الصادرات، تليها الصين، والأراضي الفلسطينية المُحتلّة، وإيرلندا، وبريطانيا، والهند، وتركيا... وقد اعترض بعض هذه الدول على العدوان الإسرائيلي على غزّة، في حين تعرّض بعضها الآخر لعمليات تجسّس تولّتها المخابرات الإسرائيلية.

رسم توضيحي 1: إلى أين تُصدّر إسرائيل السلع والخدمات؟ (مصدر: oec 2022)

الجدير ذكره أنّ المُجتمع الدولي كان قد اتّهم سابقًا الحكومة الإسرائيلية بتصنيع برنامج بيجاسوس وبيعه، وهو برنامج تجسس طوّرته شركة الأسلحة الإلكترونية الإسرائيلية NSO Group، وهو مصمّم ليُثبّت سراً عن بعد في الهواتف المحمولة التي تعمل بنظامي التشغيل iOS وAndroid. وإذا كانت الشركة لا تزال تُسوّق البرنامج على أنّه منتج لمكافحة الجريمة والإرهاب، فقد ساعدت إسرائيل بضع حكومات في التجسّس بشكل منتظم على الصحافيين والمحامين والمعارضين السياسيين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان (مصدر المعلومات الصحيفة العبرية "هآريتس").

وعلى أثر انكشاف عمليات التجّسس وزرع مُتفجّرات في الأجهزة الإلكترونية، تسببّت الحكومة الإسرائيلية في زيادة طبيعية في كلفة الاستثمارات. فآدم سميث، أبو الاقتصاد الحرّ الذي هو أول من بحث في اقتصاديات الحروب، تحدّث في كتابه الشهير "التحقيق في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها (1776)"، عن مشكلة مزمنة تتعلق بإدارة الدفاع، وهي على وجه التحديد زيادة تكاليف المعدّات الحربية. وأشار إلى أنّ التكنولوجيا المتغيّرة ترفع تكاليف الحرب. فعلى سبيل المثال، كانت البندقية أغلى ثمناً من سابقتها، الرمح. وبالطريقة نفسها، أصبحت المقاتلة النفاثة الحديثة أغلى كثيراً من سابقتها التي تعمل بالمراوح. وكنتيجة حتمية لهذه النظرية، فإنّ إسرائيل سترفع في الأعوام المقبلة نسبة نفقات الأبحاث والتطوير إلى الناتج المحلّي الإجمالي في المجالين العسكري والتجسّسي، وهو ما سيحرم القطاعات الأخرى من أموال الأبحاث والاستثمارات وسيُشوّه هيكلية الاقتصاد الإسرائيلي في العقود المُطلّة.